هولاند: عندما يستعير الفشل السياسي شكل الفوز الأخلاقي!
حميد جماهري
فرنسا تغرينا دوما بشعرية المقارنة..
كلما تعلق الأمر بالنخبة وتدبير الزمن السياسي
أو بنمط تعامل الدولة مع قضايا الوطن ..
كما تغرينا إسبانيا بالمقارنة
كلما تعلق الأمر بما هو أكبر، أي بالملكية
وتطورها
وبرعايتها التاريخية للديمقراطية..
مع الفارق في الدرجة
وفي الطبيعة …بطبيعة الحال.
وعن فرنسا ، يكون اليسار لليسار مرآة
أو جارا،
أو درسا..
كما يكون اليمين لليسار جارا
أو عدوا فكريا
أو نموذجا للاستئناس… في قراءة سلوك الدولة..
إذ لا يمين في البلد لكي يحتار يميننا
بين فرانسوا فيون
وساركوزي
وآلان جوبي …مثلا..
ويظل اليسار الفرنسي، حتى بالنسبة لمن هو غير يساري في المغرب
ولطبقة مهمة من أصحاب القرار، لوحة للقراءة..
لهذا
ولأسباب أخرى، لا يمكن أن يبقى قرار فرانسوا هولاند بدون إغراء لدى المغاربة..
فهولاند لم يشأ أبدا
أن يكون رئيسا خارقا، هو الذي رفع في حملة ترشيحه، شعار :«أنا رئيس عاد»، في مواجهة منافسه أنذاك نيكولا ساركوزي الذي كان يجتهد من أجل أن يجعل لنفسه قامة «بونابارتية»…
ورئيسا فوق العادة.
غير أن الرجل العادي الذي كان أعلى طموحه أن يكون رئيسا عاديا
وبدأ بداية عادية فعلا ..
اختار نهاية ..خارقة..
فعلا خارقة.
فقد اختار الرجل، الذي عاش أسوأ أيام اليسار في قصر الإليزيه أن يخرج من تلقاء نفسه من سباق الترشيحات الرئاسية، بعد أن تبين أن ترشيحه محفوف بالمخاطرة
وأنه لا يلقى أي التفاف حوله..
استطاع بذلك الخروج الشبه استثنائي، أن يكون إنسانا نزيها مع نفسه ومع الأرقام التي تكشف الشعبية..
ورئيسا فوق العادة التاريخية..
وزعيما غير مسبوق،
لأنه الرئيس الوحيد الذي قَبِل ألا يتقدم للمرة الثانية
ويكسر حلقة امتدت منذ الخمسينيات، لأنه بكل بساطة عرف بأنه في أدنى مستويات شعبيته
وأنه غير مرغوب فيه..
persona non grata
بيرسونا نون غراطا …
كان يمكن أن يعاند فشله، ويرميه على مشاجب اليمين الكثيرة
وعلى حركة المجتمع التي تتطرف،يوما بعد يوم.
ضد أوروبا الموحدة
وضد الترهل الجماعي لمؤسساتها..
وكان يمكن أن يسمي الأعداء، كما هم واضحين عند جزء من شعب اليسار
من بين زملائه في قصر الرئاسة..
أو في الحكومة وعلى رأسهم مانويل فالس،
كان يمكن الكثير من المبررات لكي يحتمي الرئيس بحقه المشروع في أن يتوجه إلى الرئاسيات…،
وفي حقه في الفشل حتى..
لكنه اعتبر أن النزاهة تقتضي أولا الإقرار بأنه فشل..
في إقناع الفرنسيين واليسار منه تحديدا،
في هذا الالتفاف حوله.
وبذلك يمكن القول إن الفشل
في السياسة
قد يستعير من النجاح شكله!
وبذلك قد لا تبدو، للمحلل البارد الموضوعي المشرحي أي بطولة فيما فعله الرئيس الذي يتحمل وزر سياسته، لكنه من المرجح أنه سيثمن موقفه وهو
يختار ألا يعاند الفشل..
واختار أيضا ألا يعاكس حقيقة الواقع، الذي جعله في المرتبة الخامسة من بين الأفراد والجماعات السياسية..المتنافسة.
لم يقفز بالزانة على سقف العجز…
بل قفز على ذاته وتجاوزها إلى ما يدخلها في التاريخ
لا فيما قد يخرجها من القصر الجمهوري!
وخارج المبادرة الفردية، التي جعل منها تميزها مبادرة تاريخية .
لا يمكن أن نفهم مبررات فرانسوا هولاند في ترك المنافسة، إلا إذا أدرجنا النقاش حول اليسار، في سياق ما بعد موجة «فرانسوا فيون» اليميني الجديد وفي سياق انهيار المعادلات القديمة :
يسار عتيق مقابل يمين عادي!
ولا يمكن أن نفهم مبررات فرانسوا هولاند في ترك المنافسة
إذا لم نفهم النقاش الفرنسي حول شروط النجاح اليوم.
بخصوص النقطة الأولى يمكن الاستئناس بما كتبه «هيرفي لوبرا»، في يومية لوموند عن «عودة اليمين بأوجهه الثلاثة»:
البونابارتية السلطوية مجسدة في نيكولا ساركوزي،
والليبرالية الاورلانية ( اليمين المعتدل عموما )مجسدة في آلان جوبي
والمحافظة المشروعانية مجسدة في فرانسوا فيون..الرابح مؤخرا في انتخابات اليمين الأولية!
وما يميز اليمين الأول هو « النزعة السلطوية التي لا تخلو من شعبوية، مع نزوع نحو احتقار الوسائط الموجودة»..
أما مع جوبي فيحافظ اليمين الاورلياني على روح الإصلاح مع احترام مقتضيات الاقتصاد والطبقات الشعبية ،
أما الوجه الثالث لليمين التاريخي مع فرانسوا فيون فيتميز بالحنين الملكي للحكم المطلق وبالمحافظة المطلقة أيضا…،
وهو ما يغير من طبيعة الرهان في الدور الثاني عندما يلتقي البونابارتيون مع المشروعانيين، …
وما يغير كذلك من طبيعة رهانات اليمين بالنسبة لليسار الذي يعرف بأن ذلك قد يطول في المجال السياسي، الذي سيصبح حكرا على يمين تراجعي وهوياتي منغلق، وعليه أن يدبر معركته على أساس ذلك.
وعلى عكس اليومية اليسارية التي اهتمت باليمين، اهتمت اليومية اليمينية «لوفيغارو»……. باليسار!
فتحت عنوان «اليسار يستسلم لمنطق الرجل الرباني أو رجل العناية الإلهية»، كتب «جيرار غرونبورغ»، المدير العلمي السابق لكلية العلوم السياسية ، أن على الأحزاب التي تريد أن تربح الانتخابات الجمهورية أن تتوفر على ميزتين اثنتين: أن تشْغَل، بشكل فردي أو عبر تحالفات، فضاء انتخابيا واسعا قدر الإمكان، وبما يكفي لضمان إجراء انتخابات أولية يتواجه فيها مرشحون مختلفون بما يكفي لتعبئة أوسع قطاع من الناخبين ومتقاربين بما يكفي أيضا، حتى يضمن الفائز بها مساندة ودعم مطلقين من طرف منافسيه!
ولعلها النقطة الأساسية التي نفهمها من تصريح فرانسوا هولاند عندما يقول :«أنا مدرك للمخاطر التي يمكن أن تنجم عن خطوة من جانبي لن تلقى التفافا واسعا حولها. لذلك قررت عدم الترشح للانتخابات الرئاسية».
ومن الواضح أن العنصر الذاتي أو البعد الشخصي في الانتخابات الرئاسية – وربما في كل انتخاب – مهم .
غير أن القليل من أهل اليسار الفرنسي من فهم أن الانتخابات الأولية أصبحت آلة لتدمير ما تبقى من شعب اليسار (7 مرشحين !)،بل صارت آلة لتدمير المستقبل، كما حدث في 2002، مع الهزيمة النكراء التي منيت بها وحدات الحزب الاشتراكي، وريث «ابيناي»!
ومن المحقق، أنه لا يمكن أن تخفى عن فرانسوا هولاند، الذي عاش وسط المياه الاشتراكية زمنا طويلا، مثل هذه الحقائق، لكن ذكاء التعامل معها يكمن في قبوله الخروج من منطق ، صار تقليدا تاريخيا في السياسة الفرنسية،والخروج، كما هو، إلى شعب الناخبين وعموم الفرنسيين ليقول:« هذه حصيلتي وأنا أقبل باستطلاع الرأي»… وهو استطلاع رأي حقيقي طبعا،لم يتخذ من التشكيك فيه ذريعة لدخول المنافسة التي تدمر اليسار في فرنسا أكثر مما تدمره قوة اليمين بكل وجوهه..