19 مارس 2024

سَطْـــوَة الـــبَياض

سَطْـــوَة الـــبَياض

يعرض الفنان التشكيلي فيصل احميشان جديد لوحاته الصباغية إلى غاية 20 يوليوز الجاري بالرواق الفني لمؤسسة محمد السادس للأعمال الاجتماعية لأسرة التربية والتكوين بمدينة الرباط.
في مشاهدة لامَّة لمجموع لوحات فيصل احميشان ، تنغمس العين سريعا في سطوة البياض المهيمن على المساحات المتوسطة والكبيرة نسبيا (100x 100سم – 100x 140سم)، بحيث تمسي المقاسات في هذه الحال، من أركان تقييم العمل، من حيث المعالجتَيْن اللونية والحركية، خاصة وأن انسكاب البياض وطريقة تفريشه وتَعْيين مسالك سيلانه، لابد وأن تستوعبها المساحة المُقَدَّرَة قَبْلاً، إلى أن تتم عملية التثبيت Fixation، بالشكل الذي يجعل طاقة الفِعْل بارزة وموحية، من خلال المساحة وعَبْرها.
نحن أمام توليفة بصرية مفرطة في التجريد، لا تحتمل أي توجيه سردي، بينما تترجم فِعْل اليد والجسد ضمن حركية تركيبية مدفوعة بشحنة انفعالية، تنشد لِلتَّوّ اكتمالها كتجميع أوتوماتيكي للعناصر المادية وأثرها. ففي هذا الترتيب البديع للتجاوُراتوالتضاداتContrastes والتناغمات، يكتمل الإنشاء المادي كـ”صورة” مجازية مختزلة للفعل والحركة، وما يقبع بين ثناياهُما من أنفاس وهواجس وإحساسات سرعان ما تمتد للمتلقي وتدفع به للتأمل والتساؤل. ومن ثمة، نلامس سرائر العلائق الكامنة بين الانفعال والتفاعل، التفاعل المُزْدَوَج كسيرورة للبناء التشكيلي في حد ذاته، وكسيرورة تواصلية تنسج خيوط القراءة والتذوق.
في هيمنة البياض وتدرجاته، ينتظم ذلك الالتحام المادي الذي يسنّ قواعد خفية لاشتغال حثيث حول الضوء، باعتباره أهم مقومات البحث التشكيلي لدى فيصل احميشان الذي يحدد بدقة فصيلة الألوان الرمادية التي تتراوح في مجملها بين الأوكر والبني والأَجُري والأخضر المُسْوَدّ، ضمن تنويع كروماتيكي مشدود ومختصر، إذ يخضع لاحتكام نوراني في حالات الانقشاع والخفوت
والتلاشي، بحيث يسير التكوين في اتجاه تحوير بصري ينتصر لتوالد التضادات والتوافقات المادية الشفيفة، التي تنسجم مع بُقَع الحياكات المُحَبَّبَة الموصولة بدَوْزَنَة المَلْمَس كمُعْطى مرئي يروم تشذيب التوازن وتغذية الجاذبية.
تبقى المعاجات الضوئية المرهونة بشيوع البياض ومُجاوراته (من الأبيض الفاتح إلى درجات الرمادي)، هي ما يشكل الخيط الناظم بين اللوحات التي ترسم مختلف أشكال التقابلات والتواشجات، لتظل العناصر مخلصة لتأليف مَشْهَدِيات طريفة ومتكاملة، تعكس متوالية استرسالية لانفعالية مُتأَصِّلَة، تستند إلى بواطن الذات بقدر ما تستدعي توترات الوعي.
عبر هذه السلسلة المترابطة التكوين، يضعنا الفنان فيصل احميشان أمام نتائج بحوثه التشكيلية التي طالما عمل على تقويتها وتهذيبها، ليس بالمعنى التنميقي الذي ينطوي على تَحْلِيَّة مَظْهرية، بل بمعنى تعميق التجربة التي تتجاوب من خلالها الرؤية الفنية والمنطق التقني/ الحِرَفي لإنجاز تعبيرية متينة وخاصة، تجعلنا في صلب التحاور بين الحضور والغياب، النور والعتمة، الحركة والسكون…، وذلك ضمن الرغبة الأكيدة والواعية في استغوار منابع جمالية لدلالات مرئية مفعمة بالدينامية والحيوية التي تنبعث عبر تفصيلات غنائية وشاعرية، شديدة التشييد وسريعة التنفيذ.

بنيونس عميروش
تشكيلي وناقد فني

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *