24 مارس 2024

إشكالية صلب المسيح في القرءان 2/2

إشكالية صلب المسيح في القرءان 2/2

لم تخرج غالبية المرجعيات الفقهية عن مسلمة نجاة المسيح ورفعه حيَا إلى السماء و إن اختلفت حول ملابسات حادثة الصلب وتحديد هوية الشخص المصلوب، ونلاحظ اتفاقا يوافق الحالة المزاجية العامة في مخالفة المسيحيين حول صلب المسيح، وتأكيد قدرة الله حسب الفهم الإسلامي على نجاته،فالمسيح لا حول له و لا قوة في مواجهة مكائد اليهود أعدائه حتى تتدخل إرادة الله فيلقى الشبه على غيره و يرفع هو إلى السماء.

و لعل الإختلاف في التفاصيل يرجع إلى طبيعة التفسير نفسه،فقد انهمك بحكم مادته في استهداف النص رأسيًا من جهة الدلالة اللغوية متجاوزاً العلاقات الأفقية للنص مع الاجتماع و التاريخ،لكنه حين يعود للاصطدام بالنص نفسه في موضع أخر فإنه يضطر إلى إعادة تأويل النصوص بغرض التكييف بينها و بين الواقع،و قد تم في سبيل ذلك،استخدام جميع أدوات التأويل اللغوية و الأصولية التي وفرتها المنظومة التقليدية و من بينها النسخ،كما استخدمت منهجية التأويل بالرواية بعد أن صارت بحسب الأصول الشافعية نصاً مرجعياً يستطيع محاورة النص القرءاني بالتخصيص و التقييد (1) و هو ما جرى عند اصطدام فرضية “عدم صلب المسيح” بالآيتين 33 / 34 من سورة مريم “وَ السًَلامُ عَليًَ يَوُمَ وُلدتُ وَ يوْمَ أمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًا * ذلكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قوَلَ الحَقَ الذي فيه يَمْثرُونَ” (سورة مريم 33 – 34) فالنصَ يحدَد بشكل صريح الأطوار التي ستمرَ بها حياة المسيح ابتداءً من الميلاد مروراً بالموت و انتهاءً بالبعث في الآخرة مثل سائر البشر،لقد قامت المنظومة الفقهية الأصولية الإسلامية بتوظيف أدوات التأويل باعتبار أن استعمال الماضي في “وُلْدتُ” و استعمال المضارع في “أمُوتُ” و “أبْعتُ” يتسق مع السياق الفقهي،فإن ميلاده قد حصل سابقاً،و أما موته و بعثه فسيأتيان فيما بَعدُ و بالتالي يكون قوله “و يوم أمُوت” ليس معناه أنه قد مَات،و إنما معناه أنه عند موته،فصيغة المُضارع تعني الاستقبال في هذا المقام،و ذلك بعد نزوله و قتله للدجال كما ورد في الأحاديث،فإنه يسلم من الموت على غير الإيمان بالله،فقد قال “و يوم أبعث حياً”،و ليس معناه أنه قد بعث يوم القيامة،و قال القرطبي (ت 671 ه) :”السلام علي،أي السلامة علية من الله تعالى”،قال الزجاج :”ذكر السلام قبل هذا بغير ألف و لا لام فحسن في الثانية ذكر الألف و اللام”،و قوله :”يوم ولدت” يعني في الدنيا،و قيل : من همز الشيطان كما تقدم في أل عمران،و يوم أموت يعني في القبر،و يوم أبعث حيًا يعني في الآخرة،لأن له أحوالاً ثلاثة : في الدنيا حيًا،و في القبر ميتًَا،و في الأخرة مبعوثا،فسلم في أحواله كلها (2)،و بالتالي كان افتراض عودة أخرى للمسيح يحل إشكالين رئيسيين،الأول : تفسير معنى الوفاة الواردة في آيات القرأن،و الثانية حسم مسألة رفع المسيح حيًا باعتبارها مسألة مؤقتة،فهو مثل غيره من الأنبياء،و منهم نبي الإسلام محمد،سوف يموت و يبعث يوم القيامة،فالنزوع إلى تمجيد نبي الإسلام محمد و مكانته بين الأنبياء يقتضي عدم تمييز المسيح وحده دون سائر البشر بعدم الموت،و بالتالي كان الإتفاق على عودته أمراً لا جدال فيه.

نعود إلى إبن كثير الذي يلخَص الاتفاق بين الفقهاء على عودة المسيح شرطاً من شروط الساعة،فيقول في تفسيره للآية :”وَ إنْ منْ أهْل الكَتاب إلا ليُؤمنَنً به قبْلَ مَوْته وَ يَوْم َالقيَامَة يَكُونْ عَليُهمْ شَهيدًا” (سورة النساء 159)،فقد اختلف أهل العلم في مرجع الضمير في قوله “موته” على قولين : القول الأول : أنَ الضمير يعود إلى المسيح،و على هذا يكون معنى الأية،أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بالمسيح،و ذلك قبل موته،فإنه إذا نزل من السماء،و قتل الدجال و كسر الصليب و قتل الخنزير و وضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام دينا،و حينها يؤمن أهل الكتاب به قبل موته،و يعلمُون أنه حقَ،و أنه لم يمت من قبل،فالكلام في الآية عن علامة من علامات الساعة،و شرط من شروط يوم القيامة،،سيكون بعد نزول المسيح،و أنه قبل أن يموت في ذلك الزمان سيؤمن به أهل الكتاب،و قد ورد ما يؤيد هذا القول من قول أبي هُرَيْرَةَ بعد روايته للحديث الدال على نزول المسيح في أخر الزمان،فعن أبي هُرَيْرَةَ قال قالَ نبي الإسلام :”و اُلذي نَفسي بيَده ليُوشَكنًَ أنْ يَنْزَلَ فيكُمْ ابْنُ مَريَمَ حَكَمًا عَدلاً فيَكسَر الصًليبَ وَ يَقتًل الخنْزيرَ وَ يَضَع الجزْيَة وَ يَفيضَ المَالُ حَتًى لا يَقبَلهُ أحَد حَتًى تَكُونَ السًجْدةُ الوَاحدةُ خَيْراً منْ الدنْيَا وَ مَا فيهَا ثُمً يَقُولُ أبُو هُريَرْةَ وَ اقرَءُوا إنْ شئُتمْ :”وَ إنْ منْ أهَل الكتَاب إلا ليُؤمنَنً به قبْلَ مَوْته وَ يَوْمَ القْياَمَة يَكُونُ عَليُهمْ شَهيدا” (سورة النساء 159) (3).

أما القول الثاني فهو : أن مرجع الضمير إلى الكتابي نفسه،و على هذا يكون معنى الآية،أن ما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بالمسيح،و أنه حق،و أنه لم يمت،و ذلك عندما يعاين سكرات الموت،و يرى الحقائق و البراهين،فعند موت ذلك الكتابي سيعلم أن ما كان عليه هو الباطل،لكن لا ينفعه ذلك الإيمان حينئذ،و بناءً على القولين السابقين فليس في الآية دليل أو إشارة على موت المسيح،و إنما الكلام،في القول الأول،على أمر غيبي سيحصل في المستقبل،و هو بلا شك موت المسيح،لكنه بعد نزوله كما سبق،و يشير القول الثاني أن المراد بقوله “قبل موته”،أي موت الكتابي نفسه،و قد رجح الطبري و إبن كثير و غيرهما من أئمة التفسير القول الأول،قال إبن كثير :”و قوله تعالى :”وَإنْ منْ أهَل الكتَاب ليؤَمننَ به قَبل مَوتَه وَ يَوم القيَامَة يكونَ عَليْهُم شَهيداً” (سورة النساء 159)،قال إبن جرير : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك،أي قول القرءان :”وإن من أهل الكتاب ليؤمنن به قبل موته”،يعني قبل موت عيسى،إذ يوجه ذلك إلى جميعهم و يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال،فتصير الملل و النحل كلها واحدة،و هي ملة الإسلام الحنفية دين إبراهيم حسب التفسير الأصولي الإسلامي دائماً،و عن إبن عباس قال : الآية “و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته”،أي قبل موت المسيح،و قال أيضاً : قبل موت عيسى،و الله إنه لحي عند الله،و لكن إذا نزل أمنوا به أجمعون،و قال إبن جرير : و قال آخرون : يعني بذلك قبل موت صاحب الكتاب،ذكر من كان يوجه ذلك إلى أنه علم الحق من الباطل لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه،قال علي بن أبي طلحة عن إبن عباس،قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى،و قال ابن عباس : لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى،و عن إبن عباس،قال : لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله و رسوله،قال إبن جرير : و أولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول،و هو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول المسيح إلا أمن به قبل موته،و لا شك أن هذا الذي قاله إبن جرير،في رأي ابن كثير هو الصحيح،لأنه المقصود من سياق الآية في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل المسيح و صلبه،و تسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة حسب القول الإسلامي بذلك،فأخبر الله أنه لم يكن كذلك،و إنمَا شبه لهم،فقتلوا الشبه و هم لا يتبينون ذلك،ثم إنه رفعه إليه،و أنه باق حي،و أنه سينزل قبل يوم القيامة،كما دلت عليه الأحاديث المتواترة،فيقتل مسيح الضلالة،و يكسر الصليب،و يقتل الخنزير،و يضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان،بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف،فأخبرت هذه الآية أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ و لا يختلف عن التصديق به واحد منهم،و لهذا فإن قول القرءان :”و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته”يعني قبل موت المسيح الذي زعم اليهود و من وافقهم من المسيحيين أنه قتل و صلب،و يوم القيامة يكون عليهم شهيداً،أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء و بعد نزوله إلى الأرض.

و يأتي التأكيد على قيام المسيح بكسر الصليب إمعانَا في تأكيد ضلال المسيحيين،من وجهة النظر الفقهية الإسلامية باختلاف مشاربها،و يبدو الحسم الواضح بين البنية التقريرية للنص و البنية التأويلية الواردة بالتفاسير شرطاَ أساسياً في المحافظة على الاتساق العقدي الرامي إلى التفرد والاختلاف مع الآخر،فالأبواب موصدة أمام نقاط التقاطع والاتفاق الجوهرية كلها،و هو ما سعت المنظومة الفقهية إلى التأكيد عليه و الترويج له بشكل دائم بهدف ترتيب العلاقات مع الأخر و بناء أسباب قوية تؤكد جدوى الرسالة الجديدة و أهميتها وفقا لرؤية العقلية الفقهية الإسلامية المستمدة من القرءان نفسه و ليس من التراكم التراثي فقط،و عليه فإن البُعد التجسدي لله في المسيحية،حيث أصبح تجسيد الله علامة فارقة تغيرت في الرؤية الإسلامية،إذ لم تكن لتتفق مع ميل المؤسسة الفقهية الإسلامية،ليصبح المسيح مجرَد رسول تمثلت فيه قدرات الله ليس إلا.

خلاصة : لعب إسماعيل إبن كثير دوراً كبيرا في صناعة “الأدولوجة الدينية” حسب تعبير عبد الله العروي، فهو صاحب الجملة التالية “طوائف من النصارى”، وهذا يبين فعل الإيديولوجية الإسلامية في التفسير بالنسبة للتراث الديني المسيحي،فإذا عدنا للحفر التاريخي لا نجد طوائف مسيحية زمن المسيح و بعده بقرون،و لا نجد من ثمة إشكالاً في صلب المسيح بالتعليم المسيحي الأول.

المراجع و الهوامش :

1 – عبد الجواد ياسين “الدين و التدين : التشريع و النص و الإجتماع” بيروت – دار التنوير = 2012 ص (84 – 85).

2 – محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري القرطبي “الجامع لأحكام القرأن” نسخة مدققة و مراجعة (موقع التفسير).

3 – أنظر صحيح البخاري (3192) و صحيح مسلم (220)

محمد سعيد: عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *