كلمة الحسن الداكي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة بمناسبة الندوة الافتتاحية لسلسلة من الدورات التكوينية
يومي 12 و 13 يوليوز 2021 حول موضوع:
“الحماية الجنائية للأطفال بين الآفاق القانونية والإكراهات البنيوية”
باسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
- السيد الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
- السيد وزير الثقافة والشباب والرياضة؛
- السيدة وزيرة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة؛
- السيدة سفيرة الاتحاد الأوربي؛
- السيدة ممثلة منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة؛
- السيدة المديرة التنفيذية للمرصد الوطني لحقوق الطفل؛
- السيد منسق مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء؛
- السيد المفتش العام للشؤون القضائية بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية،
- السيد الأمين العام للمجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
- السيد المحامي العام الأول لدى محكمة النقض؛
- السادة أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛
- حضرات السيدات والسادة كل باسمه وصفته والاحترام الواجب له.
إنه لمن دواعي سروري واعتزازي أن أشارك بمعيتكم أشغال الجلسة الافتتاحية لهذه الندوة المنظمة بشراكة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة وبتعاون مع منظمة الأمم المتحدة لحماية الطفولة، والتي التأم لجمعها، ثلة من الفاعلين في مجال الطفولة وطنيا ودوليا، ومن القضاة الممارسين يبتغون تدارس ومناقشة موضوعا له أهميته وراهنيته إن على المستوى القانوني أو على مستوى الممارسة العملية.
وبهذه المناسبة أود أن أتقدم لسيادة الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بوافر عبارات الشكر والامتنان على مستوى التنسيق مع رئاسة النيابة العامة، والذي ما فتئ يؤكد عليه منذ توليه مقاليد الرئاسة المنتدبة للمجلس، فلفضيلته أدعو بالتوفيق والسداد في المجهودات التي يبذلها في هذا المجال.
حضرات السيدات والسادة؛
إن الاهتمام بوضعية الأطفال يعد اليوم إحدى أبرز دعامات التنمية الشاملة للبلدان، التي لا تستقيم إلا بالتنشئة السليمة للطفولة وتوفير الحماية من كافة الأخطار والانتهاكات التي قد تمسها من جهة وتحصينها من جهة أخرى من مسببات الانحراف والجنوح كآفة اجتماعية ذات أبعاد متعددة نفسية ومجتمعية وتشريعية أيضا، وهو ما جعل من الاهتمام بقضايا الطفولة موضوعا يحتل مركزا محوريا في صلب السياسات العامة للدول.
واستحضارا لأهمية الموضوع الذي نتدارسه اليوم، فقد أولى المنتظم الدولي منذ عقود عناية بالغة لفئة الأطفال في تماس مع القانون، حيث ما فتئت مختلف الصكوك والمعاهدات الدولية ذات الصلة، تدعو الدول إلى وضع نظام قانوني خاص بعدالة الأطفال، متشبع بالمبادئ والمعايير الدولية مؤسس على مبدأ تقصي المصلحة الفضلى للطفل.
ووفاء من بلادنا بالتزاماتها الدولية، فقد عملت على ملاءمة تشريعاتها الوطنية مع الاتفاقيات الدولية من أجل توفير ترسانة قانونية متكاملة تنهل من البعد الحقوقي الدولي، تكريسا للقاعدة الدستورية التي نصت على حماية منظومة حقوق الانسان، بما فيها حقوق الطفل، والنهوض بها والإسهام في تطويرها.
ولا يخفى عليكم أن المصلحة الفضلى للطفل في تماس مع القانون تقتضي اعتماد مقاربة شمولية حمائية تربوية عمادها إنقاذ الطفل وإعادة إدماجه، لذا أفرد المشرع المغربي كتابا خاصل لعدالة الأطفال ضمنه غاياته في الحماية الجنائية للطفل. سواء كان طفلا في وضعية مخالفة للقانون أو ضحية جريمة أو في وضعية صعبة.
لذا، فإن المقتضيات القانونية الإجرائية المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية تترجم بجلاء العناية الخاصة التي أحاط بها المشرع المغربي الأطفال الجانحين وغير الجانحين، مستحضرا في ذلك أهم المبادئ الكونية المؤطرة لعدالة الأطفال، كضرورة الحفاظ على خصوصيات الطفل وحمايته من كافة الاعتداءات والأخطار والحرص على عدم إبعاده عن الوسط الأسري فضلا عن ضرورة ترجيح المصلحة الفضلى للطفل عن غيرها من المصالح، ومراعاة مبدأ التناسب بين شخصية الطفل والتدابير المتخذة بشأنه، ومبدأ عدم اللجوء إلى التدابير الاحتجازية إلا كملاذ أخير ولأقصر مدة ممكنة، إلى غير ذلك من المبادئ التي أصبحت مرشدا حكيما للمتدخلين في الحماية الجنائية للطفل.
حضرات السيدات والسادة؛
انطلاقا من الدور الذي تقوم به النيابة العامة باعتبارها متدخلا رئيسيا في الحماية الجنائية للأطفال، فإنها تحرص على تفعيل جميع الصلاحيات التي يمنحها لها القانون، وتعتبر خلايا التكفل بالنساء والأطفال بالنيابة العامة فضاء ناجعا لتحقيق ذلك. حيث يضطلع أعضاؤها من قضاة النيابة العامة والمساعدات والمساعدين الاجتماعيين العاملين إلى جانبهم بأدوار محورية في تسهيل ولوج الطفل إلى الحماية من خلال حسن الاستقبال والاستماع وتقديم الدعم النفسي الملائم للوضعية الخاصة التي ساقت الطفل إلى المحكمة، والحرص على استثمار كل الإمكانيات المتاحة في القانون لفائدة مصلحته الفضلى في سائر أطوار المسطرة القضائية بدء من إجراءات البحث والتحري إلى غاية تنفيذ المقررات القضائية.
وتوضيحا للجهد المبذول من قبل هذه الخلايا يجدر ذكر بعض الأرقام ذات الصلة بقضايا الطفل التي عالجتها المحاكم والمسجلة بآخر تقرير لرئاسة النيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة، فقد بلغ عدد قضايا الأطفال ضحايا العنف 6172 طفل وعدد الأطفال في وضعية صعبة 2266 طفل وعدد الأطفال في وضعية مخالفة للقانون 27231 طفل، كل هؤلاء محتاجون للحماية الجنائية ولتدخل هذه الخلايا.
هذا فضلا عما تضطلع به النيابة العامة من أدوار تنسيقية هامة من خلال رئاستها لجان التنسيق المحلية والجهوية للتكفل بالنساء والأطفال، والتي تعتبر بحق آلية مساهمة إلى حد كبير في التقائية تدخلات كافة القطاعات المعنية بحماية الطفولة وانسجامها وتوافقها لتحقيق تكفل ناجع بالطفل لا يستقيم دون مشاركة الجميع، استجابة لحاجيات الطفل المختلفة، من تربية وتطبيب وإيواء ومواكبة وتقويم وإصلاح وإعادة إدماج.
ومن أجل الارتقاء بالخدمات والأدوار المنوطة بهذه الخلايا، جعلت رئاسة النيابة العامة من أولوياتها تتبع سير عملها لضمان حق الأطفال في الولوج إلى العدالة وتمكينهم من المساعدة القانونية والقضائية في أفق إعادة إدماجهم، وسخرت لذلك عددا من شراكاتها مع المجتمع المدني سيما المرصد الوطني لحقوق الطفل والعصبة المغربية لحماية الطفولة ومع المنظمات الدولية المعنية بالموضوع على رأسها منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونسيف. ابتغاء توفير أكبر قدر ممكن من الدعم التقني والخبرة والانفتاح على التشاور الدائم باعتباره الخيار الأسلم والأصلح لتحقيق أهداف حماية الطفولة. لاسيما توفير الظروف والإمكانات المناسبة لإعادة إدماجهم في وسطهم الأسري والاجتماعي.
وفي نفس السياق وجهت رئاسة النيابة العامة العديد من الدوريات التي تؤطر عمل قضاة النيابة العامة وتحثهم على تقصي المصلحة الفضلى للأطفال في مختلف الوضعيات، والحرص على حسن معاملتهم واستقبالهم والاستماع إليهم في ظروف تراعي سنهم وحالتهم النفسية، والعمل على التشخيص الدقيق لوضعياتهم من أجل استثمار الآليات القانونية الأصلح لهم، وإيجاد الحلول والتدابير الملائمة بما يتناسب واحتياجاتهم.
ولقد ساهمت هذه الجهود بشكل كبير في تكريس البعد الحمائي والتربوي لعدالة الأطفال ببلادنا، من خلال رفع الحزم والصرامة إزاء الجرائم المرتكبة ضد الأطفال واليقظة الدائمة إزاء الأطفال في وضعية صعبة، ومن خلال الحرص على تفادي اتخاذ التدابير السالبة للحرية في حق الأطفال في خلاف مع القانون، وهو ما يعكسه تراجع عدد المعتقلين من الأطفال الذين تقل سنهم عن 18 سنة خلال السنوات الأربعة الأخيرة بنسبة تقارب 33- %، وهو مكسب إيجابي يتعين المضي قدما نحو ترسيخه.
إلا أنه ورغم هذه النتائج الإيجابية التي حققتها عدالة الأطفال ببلادنا، فلازالت هناك تحديات وإكراهات تواجهنا جميعا، منها ما هو مرتبط بالإطار القانوني الذي لا يزال يعتمد في بعض جوانبه على المقاربة العقابية في تعاطيه مع ظاهرة جنوح الأطفال، ومنها ما يرتبط بشكل وثيق بتوفير الموارد البشرية الكافية والمتخصصة بما يكفل مصاحبة فعالة وناجعة للأطفال المعنيين، إضافة إلى محدودية مراكز ومؤسسات الإيواء والإصلاح وإعادة التربية المخصصة للأطفال وعدم كفاية الموارد المادية واللوجيستكية المخصصة لتسهيل أدوار الفاعلين المكلفين بتنفيذ الإجراءات المرتبطة بالتكفل القضائي بالأطفال، وهي كلها تحديات تتطلب تكثيف المزيد من الجهود في إطار مقاربة تشاركية بين مختلف المتدخلين للوصول إلى عدالة صديقة ومنصفة للأطفال في إطار التفعيل الأمثل لتوجهات السياسة الجنائية في مجال حماية الطفولة، وحتى نكون في مستوى تطلعات وتوجيهات جلالة الملك دام عزه ونصره في توفير العناية والحماية اللازمة لأطفالنا، وإعداد أجيال الغد إعدادا سليما وقويا.
وجدير بالذكر أن رئاسة النيابة العامة تضع ضمن أولوياتها تعزيز قدرات قضاتها المكلفين بقضايا الطفولة وتجويد أدائهم، وحرصت منذ تأسيسها على استثمار كل المبادرات والبرامج لتطويرها وقد كان آخرها برنامج “تعزيز قدرات قضاة النيابة العامة في مجال حقوق الانسان “، والذي شمل محورا خاصا بحقوق الطفل يتضمن التعريف بأهم المواثيق الدولية ذات الصلة، وكيفية تفعيل الضمانات المقررة في هذه الاتفاقيات من قبل قضاة النيابة العامة، وتأتي في نفس السياق مشاركة رئاسة النيابة العامة اليوم في هذه السلسلة من الدورات التكوينية من أجل الارتقاء بعمل المتدخلين في مجال حماية حقوق الطفل، بمن فيهم قضاة النيابة العامة.
وفي الختام لا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إعداد هذه التظاهرة، وإلى كل السادة المتدخلين والساهرين على حسن تدبيرها والتي نأمل أن تليها دورات مقبلة جهوية بإذن الله، وأن تحقق الأهداف المسطرة لها.
حفظ الله مولانا الإمام جلالة الملك محمد السادس أعزه الله ونصره وأقر عينه بولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن والأميرة لالة خديجة وشد أزره بصنوه الرشيد الأمير مولاي رشيد وكافة أسرته الشريفة، إنه سميع الدعاء وبالإجابة جدير.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
الحسن الداكي
الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض
رئيس النيابة العامة