قصتي مع المسيحية 2/2
سأحكي لك قصتي مع “المسيحية” في هذا المقال الثاني… كان المقال الأول الذي حكيت لك فيه عن علاقتي بالمسيحية من خلال بعض الكتابات الإسلامية بشيء من الإختصار، وها أنا ذا أكمل قصتي مع المسيحية هنا، فرغم أنني كنت أبدي كثيراً من السذاجة في طفولتي ومراهقتي (والآن أيضاً إلى حد ما)، فقد كان ذهني دائما مشغولاً بفكرة لم أكن أعرف كيف أعبر عنها، مرتبطة بالعقل.
دعني أولاً أوضح هذه الفكرة : عندما تنظر إلى شخص ما فأنت تتمثله في شكله وسحنات ملامحه وقامته ومشيه وكل ما يرتبط بشخصه، أسمي هذه العملية بـ”الإستحضار”،الإستحضار، يعني الإتيان بالشيء من الذاكرة والتفكير فيه، ما كان يربكني دائماً هو معنى “يحضر”..الإنسان نفسه، وليس مجرد صورته المنطبعة في شبكة العين، فالإنسان يحضر في تجربتنا الوجودية رفيقاً أو صديقاً أو مدرساً أو نلتقيه في السوق أو المقهى أو العمل، الإستحضار يعني بتفصيل أدق المصاحبة والرفقة والأخوة التي تحس بها تجاه الأخرين والآخر الذي هو أنا، الفعل الإنساني “يحضر” في تجربتنا الوجودية يجعلنا مختلفين عن بعضنا البعض.
لكن السؤال المؤرق هنا في فعل الإستحضار هو – كيف أستحضر الله في شخص المسيح بالرسالة التبشيرية المسيحية ؟ كيف نعرف أن اللاهوت أستحضر في الناسوت ؟ كيف نعتبر المسيح مستحضراً لـ”يهوه” الأزلي ؟
في 1997 حصلت على كتاب مهم عنوانه “سياحة المسيحي” ليوحنا بنيان john binian هذا الكاتب مسيحي ذكي، فكرته الأساسية في هذا الكتاب هي أن المسيحي الحقيقي، هو الذي يستحضر شخص المسيح في كل حياته وأنشطته الإجتماعية والعلائقية مع الآخر المختلف، لم أكن مهتم كثيراً بنظرة يوحنا بنيان john binian للمسيحي الحقيقي، بقدر ما كنت مهتما بجانب ما يفكر فيه المسيحي من خلال ما ينتجه من أفكار ومواقف حياتية روحية وإيمانية، في بداية سنة 2000 وجدت كتابين هامين في المكتبة الثقافية بالأحباس عنوانهما “المسيحية على محك التأويل” لصاحبه كلود جيفري cloud jiferi صادر سنة (1983) و”الإيمان المسيحي على محك العولمة” لصاحبه كريستوف روكر، صادر سنة (1997)، هذان الكتابان كان عنوانهما مستفزا بالنسبة لي، وكان تعداد صفحاتهما أكثر من 700 صفحة، لكنني قررت أن أقرأهما مع بعضهما في ظرف وجيز (أسبوع)، لعلي أجد فيهما إجابة شافية عن سؤالي الأصلي – ماذا يعني أن يكون الله حاضرا في كل الأوقات والأمكنة ؟
إستفدت من هذان الكتابين من أوجه مختلفة :
أولاً : إستفدت منهما لأنهما عرفاني على الفكر المسيحي الأصيل، وعرجا بي إلى إشكالية التأويل عند الغرب المسيحي.
ثانياً : من خلال هذان الكتابان تعرفت على رواد الفكر المسيحي وعلى كتبهم، التي سأحصل على بعضها فيما بعد.
تعرفت على لويس شيخو وكتابه “المسيحية العربية وتطوراتها” الصادر عن دار الطليعة بيروت (1997)، والذي يعالج فيه تطور الفكر المسيحي العربي ودوره في اقتفاء المعارف اللاهوتية والروحية بلبنان وسوريا خصوصاً، تعرفت على ماكس فيبر لأول مرة بقرءاتي لكتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”، وأيضاً كتاب “يأس الكنيسة البروتستانتية” لكارل بارت، وأيضاً كتاب “الإقتداء بالمسيح”‘ لتوما الكمبيسي، وهو عبارة عن كتاب تعليمي قديم، وقرأت كتاباً عميقاً ومتميزاً، يتكلم فيه مؤلفه عن موت المسيح، والذي اختار له نفس العنوان “موت المسيح” لصاحبه جيمس داني jems dani وحصلت على كتاب كهدية من صديقة سورية كانت تقيم بالمغرب بعنوان “توضيح المسيحية للمُسلمين” للكاتب النابغة بيفان جونز bevan jounz، والذي كان ملحدا في شبابه.
هل وجدت في كتاب يوحنا بنيان john benian “سياحة المسيحي” والكتب التي تعرفت عليها من خلاله أي جواب على سؤالي الأصلي ؟ لا !… بل إنني تعلمت من “جون بنيان” أن سؤالي مجرد سؤال موهوم – كيف ذلك ؟ ألا يكون استحضارنا لمن نحب في كل الأوقات ؟ جوابنا عن هذا السؤال مبني على افتراضات تجعله منسجم داخليا،مثلاً،عندما نقول أن “الشيء حاضر في تجربتنا”،فإننا نفترض أن هناك “ذاتا” ما أحيل عليها بياء المتكلم في “تجربتي”،و هذه الذات ليست وهم لا يمكن إثباته،بل هي وجود في ذاته،كما الوجود في التعريف عند الفيلسوف سارتر “الوجود من أجل ذاته و لذاته” لكن الإستحضار غير منظور،كأنما أفترض وهما و أستنتج من إفتراضي بأن ما أفترض وجوده يحتاج إلى تفسير.
لم تقنعني تلك الكتب لأسباب كثيرة في الإيمان بأن الله يمكن استحضاره،فالله غني عن الوصف و التحيز كما يقول تفسير القبلاه لليهودية،فأخذت كتاب أخر ليست له علاقة لا باللاهوت المسيحي و لا بفكره،إنه كتاب “الإنسان و رموزه : سيكولوجيا العقل الباطن man and his symbols.conceived and edited” by – carl joustav joug – london 1983 نقله إلى العربية عبد الكريم ناصف،عن دار منارات = عمان (1987)،فقد دافع هذا البروفيسور السيكولوجي السويسري المعروف،عن نفس السؤال الذي طرحته في مراهقتي بطريقة سنطولوجية و سماه بسؤال “المشكلة الصعبة”،صاغ كارل جوستاف يونغ carl joustav jung هذا السؤال بشكل أنيق و إنتقد كل من حاول أن يختزل الوعي إلى شيء أخر غير القدرة على إستحضار الأشياء في التجربة،عكس نظرة صديقه القديم “فرويد” الذي إبتعد عنه،لقد جعلني هذا الكتاب أراجع بعض أفكاري المسبقة،و التي إكتشفت فيما بعد أنها خاطئة بخصوص الفكر المسيحي و لاهوته،فالإنسان يحتاج إلى الرموز،و كل منا يختار رومزه إنطلاقاً من حدسه و رؤيته للأمور الروحية و النفسية و السيكولوجية،فالمسيح هو ذلك العقل الباطن logos الذي نعرفه في اللغة اليونانية،و هو أيضاً الكلمة التي عرفناها بإنجيل التلميذ يوحنا،لقد عرفت فيما بعد بأن صاحب هذا الكتاب الأخير “الإنسان و رموزه : سيكولوجيا العقل الباطن” هو مسيحي و ذو ثقافة مسيحية خارقة،و قد كتب العديد من الكتب في صبغة سيكولوجية لكنها تحمل بعد سنطولوجي (المعرفة العلمية) مسيحي،لازال اللاهوتيون و خصوصاً العرب لم يكتشفوا رموزه العميقة في تنايا كتبه القيمة و المفيذة.
إن استحضار الشيء في الخبرة الإنسانية و المعرفية يعيد خلق هذا الشيء بشكل ذاتي،فالذين يستحضرون جسد المسيح و دمه في السر الكنسي المسمى ب”الأفخارستيا” إنما يفعلون ذلك كإستحضار لجسد المسيح الذي تم طعن جسده و سفك دمه على الصليب،و ليس كما يعتقد المعترضون أنهم يقومون بطقس يهودي قديم أو جزء من ثقافة شرقية تم تحويرها إلى طقس “لوترجي” مسيحي،هناك كتب كثيرة درستها بعد قراءتي لكارل جوستاف يونغ carl joustav young،قرأت كتب شبيهة لكتبه من الناحية العلمية و الكمية،ككتاب “الإله اليهودي : بحث في العلاقة بين الدين و علم النفس” لا أتذكر إسم صاحبه،لكنني أتذكر دار النشر التي أصدرته و مترجمه،هذا الكتاب هو عبارة عن ترجمة من اللغة الإنجليزية للغة العربية،قام بها نهاد خياطة،عن دار الحوار،اللاذقية (1986)،ثم كتاب “الدين في ضوء علم النفس psychology and religion” yale univesity – press (1950)،نقله إلى العربية نفس المترجم نهاد خياطة،عن دار العربي = دمشق (1988)،ثم كتاب “الإنسان يبحث عن نفسه l homme a la decouverte de son ame” geneve (1970)،نقله إلى العربية سامي علام،عن دار الغربال = دمشق (1995)،أتذكر أيضاً كتابا يشتغل على النفس و الأنا و اللاوعي،بعنوان “النفس الخافية” psychologie de l inconscient” paris (1989)،نقله إلى العربية سامي علام،عن دار الغربال = دمشق (1995).
لقد أصبح علم اللاهوت المسيحي جزءاً من تكويني بدراستي المعمقة للكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد،إذ تعلمت من اللاهوت أن فهمنا لأنفسنا هو بالفعل مفتاح إستحضارنا لله،و أن هناك سؤالاً جوهريا – سؤال استحضار الشيء في التجربة الذاتية – لم يجب عنه هذا العلم بعد،و أن المُفكرين المغاربة لا يزالون لا يعرفون هذا العلم و فتوحاته العظيمة في الفكر المسيحي،رغم أن هناك شعبة لمقارنة الأديان بجامعة محمد الخامس تناقش اللاهوت المسيحي من زاوية بحثية،و هناك مركز بحثي في هذا الشأن تابع لنفس الجامعة متخصص في مقارنة الأديان لكنهما لا يصلا إلى عمق أعماقه المعرفية.
حاول john searle في كتبه الإجابة على هذا السؤال : ما هو الإستحضار ؟ مدعيا الجدة في إنتقاذاته للنظريات التي إتخذت صفة المذهبية في هذا الموضوع كالمادية و الفيزيائية و السلوكية و غيرهما،إلا أنه عاد و إعترف في النهاية أن لعلم اللاهوت قيمة معرفية بالسنطولوجيا ليس كما عند باقي العلوم،فالعلم مهمته تصنيف كيف يعمل العالم و تصنيف وضيفته فيه،هذا يقودنا إلى أن نقبل هذه الحقيقة،و هو أن علم اللاهوت لا يفسر فقط،بل يصنف و يصف.
إن “الإستحضار”،من أعقد المشكلات التي تعترض الوعي الجمعي و تستعصي على الأفهام،فمقاربة سورل التي عبر عنها في كتب و مقالات عديدة،هي مقاربة وظيفية،تفترض بأن عملية “الإستحضار” كعلاقة الماء من جهة و الأوكسيجين المكونين له من جهة أخرى،فبين هذين المستويين علاقة سببية لا غبار عليها،بمعنى أن إجتماع الهيدروجين و الأوكسيجين هو الذي “يسبب” إنبثاق الماء،لذلك فكل خصائص الماء هي “خصائص منبثقة” emergent properties عن المستوى الأدنى،الخاصية المنبثقة هي الخاصية الجديدة التي نجد تفسيرها في المستوى الأدنى،من التحليل و التفسير اللاهوتي لألوهية المسيح.
ففي حالة علاقة الماء بالهيدروجين و الأوكسيجين تظهر خصائص منبثقة (مثل السيولة و ضغط الماء)،و لكن كل هذه الخصائص تبقى خصائص فيزيائية قابلة للقياس measurable و للتحيز في مكان cab be located أما عندما يتعلق الأمر بخصائص الوعي فلا يمكن مقارنتها مع خصائص الدماغ،فالدماغ جسم فيزيائي قابل للقياس و متحيز،لكن الوعي ليس كذلك على الإطلاق “الله يكون حاضراً في وعيي بصفته حقيقة”،هذا الحضور الذي أختبره ليس فيزيائياً بل خبرة ذاتية يستحضر فيها الشيء حضوراً حقيقياً،و عليه فإن عقيدة التجسد المسيحية صحيحة،لأنها توافق عملية “الإستحضار” الإنساني !
محمد سعيد : عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية