تقديم كتاب “فنون وأعراف البيضان” لأوديت دو بيغودو بمدينة طانطان
بحضور جمع من المثقفين والمبدعين والمهتمين بالشأن التراثي المحلي، وفي أمسية ثقافية بهية، تمَّ مساء الخميس 10 يناير 2019 بالخزانة الوسائطية بالطنطان تقديم الترجمة العربية لكتاب “فنون وأعراف البيظان- الترغيب في الصحراء” لأوديت دو بيغودو.
أدار اللقاء الناقد ابراهيم الحَيْسن الذي قدَّم معطيات موجزة حول كتاب أوديت دوبيغودو Odette du Puigaudeau، إذ اعتبره أحد أهم المؤلفات الإثنولوجية التي أنجزت في القرن العشرين حول الصحراء الأطلسية، الممتدة من السفوح الجنوبية لجبلي باني والأطلس الصغير حتى الضفة اليمنى لنهر السنغال ومن ساحل المحيط الأطلسي إلى منطقتي أزواد وإكَيدي وحمادة درعة، والذي يضم جرداً منقطع النظير للمعطيات المتعلقة بالحياة المادية لساكنة هذه المنطقة حتى أواسط القرن العشرين، قبل التغيرات الكاسحة التي شهدتها في العقود التالية، إلى جانب عرض شريط مصوَّر (3 د.) بعنوان “أوديت دو بيغودو وثقافة المور” جسَّد جوانب من رحلة هذه الباحث الفرنسية الاستثنائية معزَّزة برسوم وإسكيزات من إبداعها إلى جانب أخرى لزميلتها زميلتها ماريون سينونيس.
عقب ذلك، ألقى الكلمة السيد هَيْبَ الحافظ مدير مركز الدراسات والأبحاث الحسَّانية بالعيون الذي أبرز أن هذا اللقاء ينظم بتنسيق مع جمعية أصدقاء متحف الطنطان وضمن برنامج ثقافي متنوع سطره المركز يتناول من خلاله مواضيع تخص الثقافة الحسانية في أهم أوجهها ومكوناتها التاريخية والأدبية والفنية والجمالية، وذلك بمجموعة من المدن في الجهات الجنوبية بإشراك أكاديميين وباحثين من المغرب وخارجه، مع حرص المركز على نشر الدراسات وأشغال الندوات وكذا إيلاء الأهمية للتكوين والتربية على التراث عبر إقامة ورشات تكوينية ولقاءات تداولية حول المسألة التراثية. صلة بذلك، قدَّم السيد هَيْبَ نسخة من آخر إصدار نشره المركز قبل أسابيع موسوم بـ”ثقافة البيضان في مرآة الرحالة والمستكشفين” المتضمِّن لأشغال ندوة ثقافية كان نظمها مركز الدراسات والأبحاث الحسَّانية بالعيون في موضوع “ثقافة البيضان في مرآة الرحالة والمستكشفين” بتنسيق مع اتحاد كتاب المغرب- فرع العيون، برسم سنة 2016.
أما الباحث الجمالي محمد الشيكَر فقد شارك بورقة بعنوان “أوديت دو بيغودو أو أركيولوجيا ثقافة البيضان” تناول فيها ثلاثة عناصر متكاملة همَّت الكاتبة، الكتاب والمترجم، وفيها قدَّم بورتريها مفصلاً اشتمل على تفاصيل دقيقة من رحلتها الطويلة داخل صحراء البيضان وكذا إصداراتها والمهام المتنوِّعة التي أسندت لها في موريتانيا والمغرب، فضلاً عن الجوائز والاستحقاقات التي حصلت عليها، واعتبر أن علاقة هذه الباحثة بالصحراء، وبثقافة المور تخصيصا، تتعدَّى حدود العلاقة الغرائبية العارضة أو الطافحة بالغرابة والانخطاف والدهشة. فقد تأتى لهذه الواشجة أن تتطوَّر، مع الزمن، لتغدو علاقة ألفة ومعرفة مؤسستين أنثربولوجيا وميتودولوجيا. وبالرغم من أن بيغودو تعتبر مرجعا لا غنى عنه للاقتراب من عالم الصحراء بما هي طقس إنساني ومعطى عمراني وامتداد مكاني، إلا أنها، مع ذلك، لم تأت إلى فضاء الصحراء وطقوسها “طوعا”، بل قيض لها ذلك بقوة الأشياء وتصاريف القدر. فقد درجت في البداية على الاهتمام بعالم البحار والأوقيانوسات، وبلغ بها كلفها بالبحر وعشقها لأشيائه وأحيائه إلى حد أنها كانت تدون كل ما عَنَّ لها مفيدا في إغناء الثقافة النوتية الكونية، ومن ذلك ما دونته في كتابها “عظمة الجزر” من درر بالغة القيمة عن الجزر البحرية البروتونية.
كما تحدَّت عن الكتاب باعتباره مذكرة سفر كان ظهر سنة 2002، وأيضاً في سنة 2006 عن دار النشر Ibis press قبل أن يُطبع في حُلَّةٍ جديدة بعنوان “فنون وأعراف البيضان” نشر الفنك بالدار البيضاء لسنة 2009. الكتاب يُعَدُّ في الأصل تجميعاً لسلسلة مقالات تحليلية نشرتها الكاتبة سابقاً بمجلة هيسبيريس تامودا رامت من خلالها رصد الحياة لدى بدو الصحراء/ البيضان بين سنتي 1934 و1960، قبل أن يخلص إلى إشادته بصدقية الترجمة وبالأسلوب الإستيعاري المميِّز لها في توصيف العادات ونمط العيش في صحراء البيضان واعتبر أن مترجم الكتاب أعاد موضوع المؤلف إلى أصوله وجذوره.
بعد ذلك، أعطيت الكلمة للباحث أحمد البشير ضماني مترجم الكتاب الذي شرح السياق العملي الذي تمَّت فيه ترجمة هذا المؤلف ونقله إلى اللغة العربية، حيث صدرت النسخة المعرَّبة سنة 2017 ضمن منشورات مركز الدراسات الصحراوية في الرباط، مضيفاً في إحدى استنتاجاته أن هذا العمل، وعلى الرغم مما ينم عنه من سعة اطلاع وما بذل فيه من مجهود توثيقي استثنائي، سواء من خلال الاستشهاد بالمراجع المكتوبة أو عبر البحث الميداني، وجودة مستواه التأويلي عموما، قد تعرض للانتقاد بحجة خروجه على التقاليد الأكاديمية وتضمينه الافتراضات والمواقف الشخصية. ورغم ذلك -أضاف الباحث ضماني- فإن كتاب دو بيغودو حظي تدريجيا، ومع مرور الزمن، باهتمام علمي من طرف المهتمين عموما بتطور مجتمع البيضان، فصدر كاملا لأول مرة سنة 2002، قبل أن يعاد طبعه سنة 2009، بعد أن تحققت نبوءة أوديت، فأصبحت الغالبية العظمى من ساكنة الصحراء تعيش في المدن الناشئة بين الرمال، واختفى تقريبا نمط العيش على الترحال وأفرغت الواحات والقصور من جل ساكنتها، وأصبح البيضان يسعون إلى إعادة اكتشاف تراثهم بمختلف الوسائل، ومن بينها الكتب، وهو التراث الذي كان واقعا معاشا إلى عهد ليس بالبعيد، وفي هذا السياق يأتي تعريب هذا المؤلف لتقريبه أكثر من أولئك الذين خُصِّصَ لهم أصلا.
وقد تركت هذا اللقاء الثقافي استحسانا طيِّباً لدى كل الحاضرين وتميَّز بنقاشات هادفة ومفيدة خلصت إلى استصدار توصيات دعت إلى تثمين الثقافة الحسَّانية وترجمة المزيد من الدراسات الأجنبية حول عادات وتقاليد “البيظان” ومناقشتها تعميما للفائدة، إلى جانب مقترحات أخرى أوصت باقتباس وتوظيق التراث الثقافي الصحراوي في المجال السينمائي والإبداعي..