انتفاضة 29 يناير 1944.. محطة وضاءة في مسلسل الكفاح الوطني
يخلد الشعب المغربي، غدا الجمعة، في أجواء من الفخر والاعتزاز، الذكرى الـ 77 لانتفاضة 29 يناير 1944، التي تشكل ملحمة بطولية تؤرخ لترابط العرش والشعب خلال معركة التحرير المتوجة بالحرية والاستقلال وإعلان نهاية عهد الحجر والحماية.
واندلعت هذه الانتفاضة، التي تجسد مدى الترابط القوي بين العرش العلوي المجيد والشعب المغربي الأبي، تحديا للغطرسة الاستعمارية، وتأييدا لمضامين وثيقة المطالبة بالاستقلال، وذودا عن مقدسات الدين والوطن، واستنكارا لحملات التقتيل والتنكيل والاعتقالات الجائرة التي أقدمت عليها سلطات الإقامة العامة الفرنسية لاستهداف زعماء وقادة ومناضلي الحركة الوطنية، وعموم أبناء الشعب المغربي، إثر تقديم هذه الوثيقة التاريخية في 11 يناير 1944، بإيعاز من جلالة المغفور له الملك محمد الخامس.
ففي مثل هذه الأيام من سنة 1944، خرجت حشود غفيرة من الجماهير الشعبية من قلب العاصمة الرباط منددة بإقدام سلطات الحماية على اعتقال زعماء وقادة الحركة الوطنية، وبلغ صدى هذه المظاهرات ولي العهد آنذاك جلالة المغفور له الحسن الثاني وهو داخل المعهد المولوي، فتخطى سوره والتحق بصفوف المتظاهرين.
وقد كان لمدينة سلا حظ عظيم في هذه الانتفاضة الباسلة، حيث هب وطنيون أفذاذ من هذه المدينة في انتفاضة تاريخية يجوبون شوارعها ويواجهون قوات الاحتلال وهجومها الشرس الذي أدى إلى استشهاد رجال أبرار بذلوا أرواحهم فداء للوطن. وقد اتسع نطاق هذه المظاهرات ليشمل مختلف المدن المغربية كفاس ومكناس وأزرو ومراكش وغيرها.
وقد عبر جلالة المغفور له عن الأثر القوي الذي خلفه هذا الحدث التاريخي بقوله: “هناك تاريخ مضبوط ظل عالقا بذاكرتي هو 29 يناير 1944. في ذلك اليوم، اكتسح جمهور من المتظاهرين شوارع الرباط، مرددين شعارات المطالبة بالاستقلال، وبلغني صدى هذه المظاهرات وأنا داخل المعهد المولوي، فتخطيت سوره، والتحقت بالمتظاهرين”، مضيفا جلالته “لقد ترك يوم 29 يناير بصماته بعمق في ذاكرتي، كان معي يومئذ ثلاثة من رفاقي في المعهد، وكنا نصيح بصوت واحد: سنحصل على الاستقلال”.
وأمام هذه التطورات، ألح رمز المقاومة جلالة المغفور له محمد الخامس، طيب الله ثراه، على الإفراج عن جميع المعتقلين، لكن سلطات الحماية طوقت المدن المنتفضة وقامت بإنزال عسكري، بل وهاجمت بالرصاص الحي المتظاهرين الذين دافعوا عن أنفسهم ومقدساتهم بكل شجاعة واستماتة، فسقط منهم شهداء رووا بدمائهم الزكية شجرة الحرية واعتقل عدد آخر صدرت في حقهم أحكام قاسية بالسجن.
وتوالت بعد ذلك الأحداث ليحتدم الصراع بين القصر الملكي وسلطات الحماية التي أقدمت في 20 غشت 1953 على اقتراف مؤامرتها الشنيعة بنفيها للسلطان الشرعي وإبعاده رفقة أسرته الشريفة إلى المنفى، لتندلع ثورة الملك والشعب المجيدة التي امتدت شرارتها إلى كافة الوطن، ولم تهدأ ثائرتها إلا برضوخ الاستعمار لإرادة العرش والشعب والعودة المظفرة للملك الهمام في 16 نونبر 1955 حاملا بشرى الاستقلال ومعلنا عن انطلاق معركة الجهاد الأكبر لبناء المغرب المستقل.
ويشكل الاحتفاء بهذه الذكرى مناسبة لاستحضار وتعريف الأجيال الصاعدة على إحدى المحطات التاريخية البارزة التي ميزت مسار نضال الشعب المغربي من أجل الاستقلال، وذلك بغية نقل قيم الوطنية الصادقة ومبادئ المواطنة الفاعلة لأجيال المستقبل، للانخراط بشكل كامل في مسلسل الحداثة والتنمية والتقدم الذي تشهده المملكة.
كما حظيت هذه الملحمة البارزة والمحطة التاريخية الهامة في تاريخ الشعب المغربي بعناية موصولة واحتفاء دائم ومستمر، ومن ذلك تنظيم مهرجان كبير بمناسبة الذكرى الخمسين حيث تفضل جلالة المغفور له الحسن الثاني، فأناب عنه سمو ولي العهد آنذاك جلالة الملك محمد السادس لإزاحة الستار يوم 29 يناير 1994 عن اللوحة التذكارية المقامة تخليدا لأحداث يوم 29 يناير 1944 بساحة مسجد السنة بالرباط، والترحم على شهداء هذه الملحمة الخالدة، وتكريم ذكراهم إكبارا لتضحياتهم الجسام وأعمالهم الجليلة، دفاعا عن عزة الوطن وكرامته بقيادة العرش العلوي المجيد.
ويأتي الاحتفال، هذه السنة، بذكرى انتفاضة 29 يناير 1944، في إطار ظرفية خاصة، تتميز بتعبئة ودينامية وطنية غير مسبوقة حول القضية الأولى للمملكة، قضية الوحدة الترابية غير القابلة للتنازل أو المساومة، حيث شكلت سنة 2020 عنوانا للنجاحات الدبلوماسية التي حققها المغرب، تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، على مستوى الأمم المتحدة.
فقد عبر المجتمع الدولي مجددا عن دعمه لمغربية الصحراء ولمخطط الحكم الذاتي بوصفه السبيل الأمثل لإيجاد حل نهائي لهذا النزاع الإقليمي المفتعل، واعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المملكة المغربية التامة والكاملة على صحرائها. كما تجسد نجاح الدبلوماسية المغربية، على الخصوص، في فتح العديد من البلدان تمثيليات دبلوماسية بالأقاليم الجنوبية للمملكة.