الملتقى العالمي للتصوف يجمع علماء العالم لترسيخ قيم المحبة الجمالية وبناء المشترك الإنساني
زكرياء لعروسي
جمع الملتقى العالمي للتصوف في دورته الـ13، ثلة من العلماء والباحثين، من شتى أنحاء العالم، بمداغ، أيام 17-18-19-20 نونبر الحالي، لتدارس موضوع: “الثقافة الصوفية والمشترك الإنساني: ترسيخ لقيم الحوار والتعارف”.
وشهدت النسخة الـ13 للملتقى العالمي للتصوف، تحت إشراف الدكتور مولاي منير القادري بودشيش، مشاركة مجموعة من العلماء والأساتذة الباحثين من مختلف دول العالم، لإبراز دور التصوف في ترسيخ ثقافة الحوار والتعارف وتفعيل مبادئ المشترك الإنساني، واستثمارها في بث روح السلام، وإعادة رأب الصدع الذي أصاب الوحدة الإنسانية، فانفتح على عدة محاور بحثية، تساهم في إغناء النقاش حول قضايا التصوف وارتباطها بالمشترك الإنساني، وتقدم توصياتها أجوبة عملية على إشكاليات، ترهق كاهل مجموعات التفكير.
وأكد الدكتور مولاي منير القادري بودشيش، نجل شيخ الطريقة القادرية البودشيشية، الدكتور مولاي جمال الدين القادري بودشيش، ومدير مؤسسة الملتقى، خلال كلمته الافتتاحية، أن هذه التظاهرة أضحت محطة بحثية وأكاديمية واعدة ومتميزة، بفعل ما تتيحه من مجال خصب لتلاقح الأفكار وتبادل الخبرات ووجهات النظر حول كبريات القضايا التي تهم واقعنا المعاصر، استشرافًا لآفاق واعدةٍ وغد مشرقٍ لهذا الواقع.
وقال الدكتور منير القادري بودشيش، إن “مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، يولي عنايته السامية بمقدسات الأمة وثوابتها الدينية، فشمل الملتقى العالمي للتصوف في الدورته الـ 13 برعايته السامية.”
وشدد المتحدث في كلمته، على أن الملتقى لم يأت عبثا، أو ترفا فكريا عابرا، بقدر ما كان وراء تأسيسه عدة ضرورات وحتميات سياقية معاصرة، من بينها واجب الاجتهاد الآني، والعمل التعاوني المثمر والجاد، من أجل تدارك هذا التطور العلمي الهائل واللامتكافئ الذي تعيشه أمتنا، وكذا بسبب ما آل إليه التصوف في هذا الزمن، ولِمَا أصبح يطاله -بعد عصور من التألق والازدهار- من إجحاف وإقصاء على يد دعاة العولمة المادية ورُعاتِها، الذين لا يعطون لهذا البعد الروحي والأخلاقي أي اعتبار أو اهتمام.
ونبه الدكتور إلى خطورة ما يطال التصوف من التجاهل والتهميش والنسيان من طرف كثير من المحسوبين على الجانب الشرعي، الذين يقصون هذا المكون الإحساني، فهم إما يجهلون أو يتجاهلون، أن علم التصوف جوهرة عقد منظومة العلوم الإسلامية، خاصة والعلوم الإنسانية عامة، لأنه علم القلوب، وعلم السلوك، وعلم الأذواق والأشواق والأخلاق، وعلم السير والوصول إلى الله تعالى.
وأشار نجل شيخ الطريقة البودشيشية، إلى أن الملتقى ورش فُتح لإعادة هذا الإشعاع والتألق لعلم التصوف، باعتباره المكون الإسلامي الأصيل، والتعريف به وبقيمه ومبادئه، واستجلاء الأبعاد التي يمكن أن يقدمها للإنسانية اليوم التي غرقت في الماديات والغفلة مما تسبب لها في كثير من المشاكل النفسية والسلوكية بل وحتى المادية، يضيف المتحدث، “ولذلك فكل سنة يتم استدعاء نخبة وازنة من العلماء والباحثين من مختلف بقاع المعمور على اختلاف التخصصات العلمية التي ينتمون إليها، لتجميع الرؤى حول قضية من القضايا التي يطرحها واقعنا، كشفا لما يمكن أن يقدمه التصوف اليوم ويسهم به من حلول ناجعة لهذه القضايا.”
وبخصوص اختيار موضوع الدورة، أكد المتحدث أنه لم يكن اختيارا اعتباطيا، أو من باب اختيار الشعارات والعناوين البراقة، إنما هو اختيار يأتي في صميم الحاجة الملحة التي يطرحها واقعنا المعاصر، فقد اختير الموضوع بعد تتبع دقيق واستطلاع فاحص لحال هذا الواقع وما يعج به من اضطرابات واختلالات في نظامه العام، خاصة ما يرتبط بالعلاقات الإنسانية، سواء فيما بين الدول أو بين الأفراد، بحيث أصبح إنسان اليوم يرى في أخيه الإنسان ذلك الجحيم المظلم، إذ فقدت الثقة وأصبحت العلاقة مع الغير مرتكزها الخوف والاضطراب والقلق، “في حين كان الحري بنا -ونحن في زمن العولمة وما يشهده من تقدم تكنولوجي كبير خاصة في مجال وسائل الاتصال والتواصل- أن نكون أكثر قربا وانفتاحا على بعضنا البعض، غير أن العكس هو ما حصل” على حد قوله، فاستُغلت هذه الوسائل لبث العداء والكراهية بين الشعوب، بل إن منها من أصبحت وسائل مغرضة في أيادي البعض ممن لهم مصالح في هذه العداوات، إذ ما لبثوا يبثون الكراهية ويروجون لها وإن كانوا في الظاهر يحملون شعار السلام والمحبة والإخاء، يضيف المتنحدث، “لذا على العقلاء من بيننا أن يكونوا دعاة ورعاة حقيقيين لهذه القيم النبيلة من أجل بناء مجتمع إنساني متكامل يسوده الاحترام والمحبة المتبادلان”.
ومن جهته، اعتبر محمد جمال أبو الهنود، مستشار وزير الأوقاف والشؤون الفلسطينية، أن الملتقى العالمي للتصوف يتصدى للخطر الداهم الذي يهدد الإسلام والبشرية جمعاء، الداعي إلى العنف وتشويه صورة الإسلام.
وأكد المتحدث أن مبادئ التصوف تقوم على الحب والرحمة الإخاء والتسامح والتعايش وقبول الآخر، وحب الإنسان للإنسان، والتعاون على البر والتقوى، معتبرا أن التصوف دين خلق وأخلاق ومن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك في التصوف.
واعتبر الدكتور أبو الهنود أن التصوف يدعو إلى أن تعمل البشرية جمعاء على ما اتفقت عليه، ويعذروا بعضهم البعض على ما اختلفوا عليه، ليعيش الجميع حياة عدل وسلام وقبول الآخر، ويتعاونوا فيما بينهم لينال كل ذي حق حقه في الحياة.
وقال محمد جمال أبو الهنود، إن المغرب يمثل أمة في ذاتها، وشعب واحد ودين واحد وقيادة واحدة، فهذه الأمة بمختلف أطيافها السياسية، مجتمعة على قلب رجل واحد، حبا وبيعة واحتراما وتقديرا لأمير المؤمنين.
وأشار المتحدث إلى دور إمارة المؤمنين في حماية الثوابت المغربية وصيانتها وتنميتها، فبيعة أمير المؤمنين مؤطرة ومقعدة على أصول دينية من الكتاب والسنة، ثم العمل بالعقيدة الأشعرية التي تعتبر عقيدة وسطية واعتدال، ثم الفقه المالكي الذي دفع المغاربة، وهم خير من خدموا الفقه المالكي، فالانتقال إلى مدينة رسول الله للأخذ عن الإمام مالك مباشرة، والذي كان يعمل عمل أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشدد العالم الفلسطيني أن المغاربة تشربوا هذه المعاني من مذهبهم فأحبوا آل بيت رسول الله وأحبوا أصحابه، فكانت عقيدتهم عقيدة أهل السنة والجماعة، فجعل الله المملكة المغربية لآل بيت رسول الله دارا وقرارا، وكان المغاربة لآل البيت أحباب وأنصارا.
وربط المتحدث الأمن والاستقرار الذي ينعم به المغرب، بجهود الوحدة والحماية التي يسهر عليها أمير المؤمنين، فأجمعت الأمة المغربية على بيعة جلالته ومحبته ووحدها فتوحدت على محبته والوفاء إلى بيعته، وبذلك حفظ الله المغرب من فتن ظاهرة اجتاحت المنطقة.
قال ارشد محمد التورني، رئيس علماء جنوب إفريقيا، إن التصوف متجذر في أعماق الثقافة المغربية، وهو ما ساهم في تحصين الأمن الروحي بالمغرب، وتصدى بكل حزم إلى الأفكار الذي تدعو إلى الغلو والتطرف، فمن ذاق حلاوة التصوف، بعيدا عن الادعاء والتمظهر، سيدعو بلا شك إلى الحوار والسلام وحسن الخلق.
وأكد رئيس علماء جنوب إفريقيا، أن المغرب في الاتجاه الصحيح، لكن لا يمكن أن نطلب نتائج لعملنا بشكل مستعجل، إنما يتطلب مزيدا من الوقت والجهد، وأن الملك محمد السادس في مقدمة نشر السلام والمحبة والأخوة، ويعمل على لم شمل علماء القارة الإفريقية.
واعتبر العالم الجنوب إفريقي، أن الملك محمد السادس يُكتب اسمه في التاريخ بماء من ذهب، فلأول مرة يتم توحيد الأمة على مستوى القارة الإفريقية، وهي خطة تعمل على المدى الطويل، لما فيه خير وصلاح القارة، وستظهر نتائج مبهرة لعمل جلالة الملك، في السنوات القادمة.
وشدد أرشد على أن أمير المؤمنين في مقدمة من ينشرون التصوف السني، القائم على المحبة والتسامح وحسن الخلق، والتحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن ذميمها، مستشهدا بكبار علماء التصوف كأبي الحسن الشاذلي ومولاي عبد السلام بنمشيش.
وتخللت أشغال الجلسة الافتتاحية، توقيع اتفاقيات شراكة وتعاون، بين مؤسسة الملتقى، وجامعة محمد الأول، وأكاديمية جنوب إفريقية، وهو مكسب جديد يعزز حضور المغرب في دولة جنوب إفريقيا، انخراطا في الدينامية الملكية التي يقودها أمير المؤمنين في القارة السمراء.
ووصف المشاركون هذا الملتقى، بملتقى حب، يعلم حب الله ورسوله، وينشر السلام الروحي، ويوسع مجال المعرفة والسلوك، والمعتقد الذي يدعو إلى الدين الوسطي الحقيقي، والذي يجمع ولا يفرق، من خلال التفاف قلوب المريدين حول شيخ الطريقة.
وارتكزت أغلب المداخلات على نبذ العنف والتطرف والغلو في فهم الدين، مقابل النظر إلى دين الله نظرة جمالية، تشجع على ثقافة السلام، وتفكيك خطاب الصراع، الديني والحضاري، نحو حوار حقيقي يجمع الحضارات والأديان، تعزيزا لقيم المشترك الإنساني.
وناقشت جلسات الملتقى طيلة أربعة أيام، محاور مرتبطة بأصول وتجليات المشترك الإنساني، والمشترك القيمي في الثقافة الصوفية، ثم المشترك الفكري والثقافي والديني والحضاري، وتدارس تحديات الثقافة الصوفية في بناء المشترك الإنساني، وقيم التعايش والتعاون والمحبة والسلام، انطلاقا من مشتركات فنية وجمالية. ودور هذا المشترك في التأسيس لقيم المواطنة العالمية، وتعزيز قيم الحوار والتعارف والتواصل الحضاري.
وشكل مقر الطريقة القادرية البودشيشية، قبلة للزوار والمريدين، من باحثين وعلماء من مشارب وجنسيات مختلفة، لحضور هذا الملتقى العلمي، ومريدين يبحثون عن ملاذ روحي يقودهم إلى المحبة الحقيقية، والتحلي بالذكر والصحبة والاجتماع على الله، والتخلي عن ذميم الأخلاق وقبيحها.