الصين – أمريكا : صراع أم تعاون؟
بقلم القادري المصطفى- لندن
مما لا شك فيه أن النظام العالمي بوصفه مجموعة من قواعد مركبة التعقيد تتحكم في مسارات العلاقات الدولية وتتأثر بها وفقا لموازين القوى وطبيعة شبكات العلاقات الإستراتيجية بين الدول أو الكيانات المرتبطة بها. وبالرغم من عمق التعقيدات المتحكمة في تفاصيل النظام العالمي، إلا أننا نلاحظ غالبا أن التعاطي الإعلامي يتناول علاقات الدول فيما بينها بكثيرمن التبسيط خصوصا في الأونة الأخيرة حيث يستثمربعض الإعلام في إتناج وتسييد ثقافة العناوين الجذابة والتحليلات المنحازة مسبقا لقناعات أصحابها أو لجهات داعمة لها مصلحة مباشرة في صرف الإنتباه عن التفاصيل الدقيقة والتأثيرمباشرة على موقف الأفراد من خلال التركيز على الفكرة الواحدة التي تمتلك القدرة على خلق محيط خصب لتقسيم المتلقي بين مؤيد ومعارض، في حين أن الدول بطبيعتها تختلف ّأهدافها ومواقفها ارتباطا بعامل المرحلية وخصائصها واستنادا إلى الإحتياجات الواقعية التي تفرض نفسها بطبيعة عامل القوة الكامن وراءها
لذلك فالحديث عن كنه العلاقة التي جمعت تاريخيا بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يفضي بنا إلى الأنقسام -وهو حال الرأي العام الغربي و الأمريكي عموما- حول طبيعة وخصوصية هذه العلاقة ومستقبلها، فهل ستقودنا إلى المزيد من الصراع المحفوف بمخاطر كونية ؟ أم أننا بصدد معايشة نقلة نوعية نحو بناء تعاون وطيد بين القطبين؟
فدراسة العلاقة الصينية-الأمريكية وتاريخها وتحليل بنيتها واستكشاف دهاليزها بما يتوفر لدى الباحث من معطيات، كفيل بتقريبنا إلى بناء رؤية أكثر وضوحا وإزاحة بعض الضبابية التي تكتنف رحلة استشراف المستقبل. وكما لا يخفى على المتتبع للشأن الدولي في كافة أبعاده سواء السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية والعلمية، ما لتفكيك عناصرهذه العلاقة من أهمية باعتبارها ستحدد مستقبل العالم خلال ما ما تبقى من القرن الحالي، ومن هنا نفهم إلى حد ما سبب التغيير النسبي الذي بدأ يطال الخطاب الداخلي الغربي حول الصين وتركيز الكثير من مراكزالبحث والمعاهد و الجامعات الأوروبية والأمريكية على تشجيع كل المشاريع والدراسات العلمية التي من شأنها أن تستكشف النموذج الصيني في كافة أبعاده . فالصين تعيد النظام العالمي إلى طاولة النقاش الدولي و الأكاديمي -على حد سواء – في إطار التفكير في نسخة مستجدة تتسع لكل الأقطاب على تعددها ووفقا لمقاربة تشاركية تسمح بإنظمام القوى الصاعدة وتمكينها لتغذو مساهما مباشرا في صياغة القرارات بشكل مشترك بهدف تقوية فضاءات التعاون الدولي، وهذا ما أقره خطاب الرئيس أوباما إبان زيارته لليابان سنة 2009 حيث كان واضحا من خلال دعوته الصين للإلتحاق بالنادي الدولي معتبرا أن نمو الصين يجب أن يصب في تقوية المنتظم الدولي ، في تفس السياق صبت دعوة كاتب الدولة الأمريكي روبيرت زيوليك الصين إلى التصرف كشريك مسسؤول في القضايا الدولية وبدء ما اصطلح عليه بالحوار الإستراتيجي لتصبح الصين أكبر مالك أجنبي لديون الحكومة الأمريكية وثاني أقوى إقتصاد عالمي
من خلال العودة ولو بشكل سريع إلى بعض المحطات التاريخية نجد أن ضعف الإمبراطورية الصينية زامنه صعود نجم الإمبريالية الأوروبية التي أخصعت الصين لإتفاقيات مذلة حول استغلال الموارد الصينية تبع بأنغماس الصين في صراعات داخلية وحرب أهلية ضروس أدت إلى تغييرات داخلية عميقة أفضت في نهاية المطاف إلى قيام الثورة الشيوعية
مرحلة مابعد الثورة بدورها عرفت تجاذبات وصراعات مع الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تتوانى بالتلويح بتهديدات نووية ضد الصين، في نفس الوقت نجد أن علاقة الصين بالإتحاد السوفيتي عرفت بدورها تشجنات سواء تلك المتعلقة بالصراع حول الحدود أو القلق الصيني حول تنامي النفوذ السوفيتي في المنطقة من خلال الدعم المقدم لفيتنام لتتحول إلى نقطة تابعة استراتيجيا للسوفييت، وللإشارة فإن هذا الصراع كان من بين العوامل التي ساهمت في فتح منفذ للتقارب الامريكي الصيني و حصول الصين على مقعد في مجلس الأمن الدولي بالإضافة إلى فتح باب التعاون حيث كانت زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريشارد نيكسون إيذانا بالتحول العميق الذي ستعرفه العلاقة بين الدولتين رغم وجود معيقات تعود لطبيعة العلاقة باعتبارها ثلاثية الأبعاد، بين الصين وأمريكا من جهة وبين البلدين وحلفائهما خاصة بالمحيط الهادي مما يضيف متغيرات إلى المعادلة تعيق بالمحصلة التوصل إلى تفاهمات شاملة تأخذ بعين الإعتبار مصالح كل المتدخلين
فبعد الهيمنة الأوروبية الإمبريالية وبزوغ الولايات المتحدة الأمريكية كقوة صاعدة ليعيش العالم طيلة ما يناهز نصف قرن من الصراع بين القطبين الشيوعي و الرأسمالي من خلال ما عرف بالحرب الباردة التي كان انهيار الإتحاد السوفياتي من بين نتائجها المباشرة ليعرف العالم فترة انفراد الولايات المتحدة الأمريكية خلال عقد و نصف بمقاليد القرار الدولي
مع بداية الألفية الثالثة سيشهد العالم تطبيعا أكثر عمقا للعلاقات بين الولايات المتحدة و الصين حيث يعتبر التحاق الأخيرة بالمنظمة العالمية للتجارة تمهيدا للعب ادوار اقتصادية تنسجم مع الخط العام للسياسات الإقتصادية الغربية ومواصلة سياسة الإنفتاح على العالم حيث أصبح العديد من المراقبين الإقتصاديين يعتبرون أداء الصين الإقتصادي متوافق مع الخط الرأسمالي
الصعود الصيني الصامت و المتواصل نحو القمة والمبني بالأساس على سياسة خارجية تتجنب أو تهمش مرحليا كل الصراعات التي من شأنها أن تستنزف طاقات الدولة والتركيز على الدور الداخلي الذي يتجلى في توسيع الطبقة الوسطى الذي يعتبر أحد النجاحات الكبرى التي حققتها الصين من خلال إلحاق أزيد من 300 مليون مواطن بهاته الطبقة خلال العشرون سنة الماضية، بالإضافة إلى بناء مصالح اقتصادية دولية مشتركة على قاعدة رابح-رابح، تخلق نوعا من الترابط يفضي إلى احتياج طرفي العلاقة أحدهما للأخر لتحقيق أهداف استراتيجية حتى وإن كان هذا الإحتياج غير متوازي في كل تفاصيله في الوقت الراهن، بجانب الإستمرار في محاولة التحرر من الإتفاقيات المذلة تاريخيا وفقا للمعيار الصيني وفرض نوع من الإحترام من خلال التعبير عن النفس كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها، ولنا خير مثال في التطورات الراهنة التي يعرفها ملف هونغ كونغ
النقاش الدولي الراهن يفرض بالضرورة التطرق لموضوعات من قبيل الإتفاقيات التجارية والأمن في شقيه العسكري والرقمي بالإضافة إلى التطور التكنلوجي وما يرافقه من منافسة شرسة تعيد نقاش الملكية الفكرية إلى الواجهة وتؤجج السباق نحو إكتساب التفوق النوعي في مجالات الإتصال و التواصل بمختلف مستوياتها والرغبة في التحكم بالشبكات التكنلوجية الدولية، و في هذا الإطار يمكن إدراج المناوشات الإعلامية التي طفت حديثا بين إدارة الرئيس ترامب وبعض شركات التكنلوجيا الصينية، كتعبير عن التخوف من التبعات الأمنية المترتبة عن حصول الصين على حقوق نشر تقنية الجيل الخامس للإتصالات والتحكم بها، والتذرع بعدم استقلالية الشركات عن الدولة الصينية مما يطرح إشكالية غياب الضمانات الأمنية، في نفس السياق ونتيجة للضغوطات الأمريكية تراجعت ابريطانيا عن قرارها بتكليف الشركة الصينية بنشر التكنلوجيا الجيل الخامس، هذا و بالإضافة إلى إستمرار خلافات عميقة حول السياسات الغربية في الشرق الأوسط وأفريقياأو ملف التغيير المناخي والفشل المتواصب في صياغة اتفاق كوني عادل لكافة الأطراف دون إغفال الجدالات الأبدية حول منظومات حقوق الإنسان سواء في نسخها التقليدية أو تلكم الأكثر تطورا وتعقيدا
لغة الأرقام بدورها تؤكد وبقوة أن العالم مقبل لا محالة على تغييرات في المشهد التجاري بشكل سيؤثر على مستقبل العلاقات الدولية من منظور سياسي حيث تشير التوقعات أن إقتصادات الدول النامية وعلى رأسها الصين ز الهند، سوف تتفوق على نظيرتها المتقدمة لأول مرة منذ الثورة الصناعية وذلك مطلع سنة 2060 وفقا لدراسة أنجزتها سنة 2012 منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية (OCED)
كما أنه من المتوقع أن الإنفاق العسكري الصيني سيصبح مساويا لنظيره الأمريكي سنة 2035 ، بل وسيستمر إرتفاعه ليتفوق عليه في السنوات الموالية، بالإضافة إلى تفاقم عجزالميزان التجاري الأمريكي لصالح الصين ناهز 315 مليار دولار أمريكي سنة2012 وفقا لوزارة التجارة الأمريكية
كل ما تقدم يحيلنا بالضرورة إلى التساؤل حول إمكانية إعتبار العلاقة الصينية-الأمريكية شراكة إستراتيجية لما نلاحظه من ترابط اقتصادي وثيق أم أن الأمريكيين ومعهم أوروبا يرون في الصين منافسا استراتيجيا يبني قدراته بهدف الإستيلاءعلى موقع الريادة؟
الرأي هنا ينقسم إلى توجهين مختلفين، حيث تعتبر فئة واسعة من المحللين أن الأداء الصيني عدواني وموضع شك فيما يتعلق بالنوايا المستقبلية وتدعو بالنتيجة أن يمارس المنتظم الدولي سياسات تحول دون السماح للصين بالتحول إلى أكبر قوة دولية حتى لو اقتضى الأمر توجيه ضربات عسكرية موضعية ودقيقة كافية لعكس مسار الصين نحو القمة، و الملفت للنظر أن هذا الطرح يدعمه الكثير من الصينيين المعارضين أو المتشائمين على حد سواء حيث يعتبرون أن المجتمع الدولي لن يسمح لبلدهم باحتلال الريادة حتى و إن اقتضى الأمر إلغاء الإتفاقيات
وفرض العقوبات الإقتصادية أو القيام بعملية تقليم أظافر على المقاس
في الجانب المقابل، أصوات تتعالى محاولة تحطيم الصورة النمطية التي تم تأسيسها في المخيلة الثقافية والسياسية للغرب معتبرة أن الصين لا تملك أية نوايا للسيطرة على مقاليد القرار الدولي وتفضل العمل في إطار شراكة استراتيجية تؤسس لعلاقات دولية جديدة تنبنى احترام الإرادات من خلال التوجه نحو مزيد من دمقرطة العلاقة الدولية وبحث السبل التي تضمن تحقيق تكامل اقتصادي دولي يفتح المجال أمام كل اللاعبيين الدوليين للإستفادة من حركية الإقتصاد الدولي
أيا كان السيناريو الذي سيفرض نفسه في نهاية المطاف، فإنه مما لا شك فيه أن العالم مقبل على تحديات سياسية واقتصادية غير مسبوقة، حيث تؤكد كل الدراسات المتوفرة و التوقعات حتميتها ليبقى مستقبل الإنسانية رهين بالخطوات التي يمكن ان تسلكها أهم الدول المؤثرة في القرار الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ومدى تأثير مختلف اللوبيات في اتخاذ قرار دون الآخر.