“التنمر الإلكتروني” في المغرب.. حكايا عن الوجه المظلم لمنصات التواصل الاجتماعي
سجلت في البداية حضورها على شكل حالات معزولة، لتتطور إلى حد باتت توصف معه بـ”الظاهرة”.. “التنمر الإلكتروني” الجريمة المستحدثة والمنفلتة من الرقابة ومن العقاب أحيانا، وقودها الثورة الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي. ما كان ينقص البعض تحقق اليوم، السلطة والقوة في آن واحد، على حد تعبير صمويل كولت، مخترع المسدس الذي قال مباشرة بعد تصميمه “الآن يتساوى القوي والجبان”.
ورغم اختلاف سياق الكلام يمكن إسقاطه وتوظيف العبارة لتوصيف مخرجات هذه الثورة، إذ بات عدد كبير ممن يملكون حسابات على هذه الفضاءات “يتنمرون” على الآخر المختلف، على وزنه، لونه كما شكله، وصولا إلى جسده، ولباسه وصوره بجانب آرائه، ومواقفه وسلوكياته وقناعاته…
ولم يعد خافيا ارتفاع منسوب “التنمر الإلكتروني” الذي بات الوجه القبيح للثورة الرقمية، “ومعبرا” جديدا نحو الانتحار أو الوصم الاجتماعي والنفسي، وطريقة لعزل بشر لم يختاروا لا شكلهم أو فقرهم أو مرضهم… تأذى منه الصغير كما الكبير، إلى درجة شغلت الناس والمختصين؛ وأشارت أصابع الاتهام فيه لجريمة قتل “رمزي” على “أيدي” مجرمين ومجرمات افتراضيين وافتراضيات يوجدون خارج دائرة المساءلة، ينامون دون أدنى إحساس بوخز للضمير. كيف لا والجرائم لا شهود عليها ولا أدوات واضحة، وفي غياب لحالة التلبس، أو هكذا يظنون.
استقت “المغربي اليوم”، خلال هذا الاستطلاع شهادات عدد ممن كانوا على خط تماس مع الانتحار والموت بعد أن “دفعهم” متنمرون ومتنمرات إلى ذلك “دفعا” في العوالم الافتراضية، وأصغت إلى حكايات ضحايا لـ”التنمر الإلكتروني” كما رووها هم بألسنتهم، وحملت هذا النقاش المتنامي والراهني لتداوله رفقة عدد من المتدخلين بدأت تثيرهم الظاهرة؛ كما حاولت مواكبة النقاش المجتمعي الذي يدور في فلكها مع كل واقعة، غير أنه سرعان ما يخبو في انتظار وقوع أخرى.
جرح هبة
بدأت الرحلة وسط هذا الموضوع المتداخل مع 3 حكايات دالة ضمن حكايات كثيرة، بعضها كان حديث وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، وأخرى بقيت طي النفوس وتحفر فيها، وأخرى لم يكتب لها أن تحكى برحيل أصحابها للأسف. وظل الضحايا فقط كما العائلات أحيانا هم من يتجرعون مرارة الوجع والفقد.
وسط حي درب السلطان الشهير بالدار البيضاء تعيش هيبة رزوقي، شابة لم تتجاوز ربيعها الثاني والعشرين، قادها القدر، ولربما البشر، نحو لقاءات تعليقات ومحادثات افتراضية مع متنمرين ومتنمرات، والحصيلة هذا المقطع القاتل:”ختي هيبة راه موتك أحسن من حياتك، غادي غير تبقاي كتعذبي، أنا في بلاصتك كاعما نبقا عايش”، كانت هذه العبارة القاسية التي أرسلها أحد المتنمرين لهيبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مدخلها في الحديث لـ”المغربي اليوم”، أخذت الطالبة الجامعية نفسا عميقا قبل أن تورد عبارة أخرى “جاد” بها متنمر آخر “هيبة ختي را مفهمتش أشنو قلتي فالفيديو، راه الناس كيضحكو عليك أختي، متحاوليش تبقاي تنشري فيديوهات، خليك مخبية حيت را ماغديش تقدري توصلي لشي حاجة، عندك مشكل صعيب بزاف”، وتضيف معلقة “صراحة هذه الرسائل أثرت في بشكل كبير وكبير جدا ولم ولن أستطيع نسيانها يوما وحتى أكون صريحة لم أجرؤ حتى على ذكرها في أي مقام”.
وعادت الذاكرة بهيبة لأول موقف تعرضت فيه لـ”تنمر إلكتروني” عنيف لتسترسل بالحكي “أول موقف أتذكره وأحسست فيه فعلا بالتنمر الإلكتروني حينما قمت بنشر مقطع فيديو لي أتكلم فيه عن تجربتي، وحاولت عبره تقديم نصائح للشباب الذين يعانون من نفس مشكلتي، فإذا بي أتوصل ببعض الرسائل المحبطة والمؤلمة والمشحونة بالطاقة السلبية، وكثير من العبارات المسيئة جدا لي. صراحة شعرت بالضيق والألم، كانت كلمات قاسية بشكل لا يوصف”.
واصلت الطالبة الجامعية البوح وعيناها شاحبتين، ثقيلتا الحركة “كان الإقدام على الانتحار يظهر لي في فترة من الفترات هو المخلص، وهو أقصى درجة وصلت إليها بسبب “التنمر الإلكتروني”، حاولت عدة مرات وفشلت بسبب لطف الله. الناس للأسف غافلون ولا يدرون أو يعون مدى خطورة هذا الفعل، كل يوم أتعرض وبشكل لا يطاق للتنمر وللاستفزاز والإحباط من طرف الناس، وكأنني مندورة له. في يوم من الأيام كما قلت وصلت إلى مرحلة لم أستطع معها أن أتحمل أكثر، فبدا الانتحار بالنسبة لي الحل الوحيد لوضع حد للمعاناة والتوقف عن سماع كلام الناس، ووضع حد لهذا التنمر؛ لكنني والحمد لله عدت من الموت عدة مرات، وبدأت أتعايش مع الأمر بفضل دعم العائلة وقلة من الأصدقاء، كما كنت أشاهد فيديوهات لأخصائيين نفسيين وبعض المحفزين في محاولة للهروب من ندوب مازالت في الذاكرة”.
ثقافة الوصم
ترى عزيزة زيوزيو، أخصائية نفسية، بأن “التنمر الإلكتروني” بالمغرب أصبح مشكلة حقيقية في صفوف المراهقين والمراهقات، فهو أكثر عنفا لأنه يسمح باستمرار التحرش خارج المدرسة والكلية، وهو التطور المؤسف لممارسات التحرش المعنوية في ضوء تطور الشبكات الاجتماعية والعوالم الافتراضية على حد تعبيرها.
مضيفة في حديثها لـ”المغربي اليوم”، “لقد وضع علماء النفس الإكلينيكي وغيرهم من المختصين في الصحة العقلية استراتيجيات دعم متخصصة تركز على هذه القضية من خلال اقتراح حملات وقائية، بالإضافة إلى التدخلات العرضية في المدارس مع الطلاب الذين يقعون ضحايا لهذه الظاهرة في مجموعات أو بشكل فردي، لخلق وعي بمخاطرها والنفاذ إلى المجتمع، ومنح إحساس للتلميذ بأنه ليس وحيدا أو معزولا والسماح للتلاميذ الحاضرين بتشكيل شبكة دعم اجتماعي فعالة لمواجهة المتنمرين والمتنمرات”.
الأخصائية النفسية، أضافت “أستقبل بحكم مهنتي العديد من حالات التنمر الافتراضي، صراحة الشباب يمرون بلحظات ألم نفسي وعاطفي شديد بسبب تلقيهم جرعات من الإيماءات اللفظية والجسدية العنيفة، التي تخلف لديهم في بعض الأحيان شعورا بالإقصاء والرفض وصعوبة تقديم أنفسهم وتأكيد احتياجاتهم ورغباتهم بشكل يفوق كل الحدود” .
وشددت زيوزيو على أنها خلال مرحلة التكفل النفسي تقوم كخطوة أولى بالاستماع إلى الضحايا من الجنسين، للسماح لهم بالتعبير عن تجاربهم المؤلمة، ثم تشرح لهم عملية التنمر من خلال السماح لهم بالشعور بضحايا هذه العملية الصعبة، من خلال تمارين عن طريق توظيف الفن، وكذلك التدخل السريري لجعلهم يستعيدون حياتهم اليومية، ويصبحوا فاعلين في حياتهم العادية، مقترحة عليهم كذلك طريقة للعب الأدوار، بالإضافة إلى ديناميكيات الجماعة، لإنشاء مجموعة دعم فيما بعد بين هؤلاء الشباب.
كما اقترحت الأخصائية النفسية، في إطار حلول للتعافي من الظاهرة، على جميع المدارس “تأسيس لجان تربوية مثلا تسمح بخلق وإنشاء مساحات للكلام، أو لجان شبابية يكون هدفها اكتشاف هذا النوع من الظواهر”، مردفة: “هنا الإحالة على المربي والمعلم الذي يمكنه طلب التدخل من محترف يبني معه مساحة لدعم ومرافقة هؤلاء الطلاب الذين يعانون من المضايقات الرقمية في إطار الفضاء الافتراضي، بشكل يحد من تفشي هذه الظواهر ويوقف تطورها”.
واستطردت زيوزيو: “للأسف تطور هذا النوع من الظواهر منذ فترة طويلة وحتى قبل الحجر الصحي الذي ساهم في تعزيز التواصل الافتراضي المفرط. وأتذكر بالمناسبة لعبة “الحوت الأزرق” التي دفعت عددا من الشباب إلى الانتحار بعد التحكم فيهم عن بعد، وعبر شاشات كانت ظاهرة مقلقة للغاية؛ ولهذا السبب يوصى اليوم باليقظة في المدارس، ولكن أيضا داخل المنازل، للانتباه إلى الشباب والإنصات إلى صعوباتهم والاهتمام بالتغييرات في السلوك التي قد ينتج عن تجربة التنمر في المدرسة، التي تبدأ في القسم وتستمر عبر شاشات الحواسيب والهواتف الذكية… “.
بأي ذنب
هيبة ليست الوحيدة التي واجهت “التنمر “، ولن تكون الأولى ولا الأخيرة. عدد لا يستهان به يعانون يوميا وفي صمت، بعضهم اختار في لحظة ضعف إنهاء حياته، ومنهم من مازال يقاوم في غياب أي دراسة علمية أو إحصائيات رسمية حول ضحايا “التنمر السيبراني”.
في المغرب من الصعب تقديم رقم يعكس حجم المأساة، وكأن الظاهرة مازالت خارج اهتمام المغرب الرسمي، ولربما لكونها تجاوزت بلدنا وصارت “موجة” عالمية لا يكاد يخلو منها بلد، بل حتى بعض حوادث الانتحار وإلحاق الأذى بالنفس اللصيقة بـ”التنمر الإلكتروني” تم إلباسها لبوسات مختلفة، وقدمت لها تبريرات لدفعها خارج الدائرة، ولعدم تهويلها.
ومما ساهم في بروز هذه “البلطجة الإلكترونية” كذلك جائحة كورونا، التي جعلت خصوصا في أشهرها الأولى الناس حبيسي حواسيبهم وهواتفهم الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، ما جعل بعضهم لقمة سائغة في أفواه المتنمرين والمتنمرات.
لا يكاد يخلو يوم بل كل ساعة أو دقيقة وحتى ثانية في المغرب من لحظة “تنمر إلكتروني”، تتخذ حسب العارفين أشكالا مختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات التراسل الفوري، والألعاب الإلكترونية، والهواتف الذكية، وتحدث بشكل متكرر يهدف إلى إرعاب الأشخاص المستهدفين أو إغضابهم أو التشهير بهم عن طريق نشر الكذب أو باستخدام صور محرجة لأحدهم على وسائل التواصل الافتراضي، وأحيانا عن طريق إرسال رسائل مؤذية أو تهديدات عبر منصات التراسل، وانتحال شخصية أحد ما وتوجيه رسائل دنيئة للآخرين باسمه، كلها طرق وغيرها كثير والغاية واحدة هي تحطيم النفوس وكسر الإرادات. ويكفي الاطلاع على الظاهر من تعليقات المغاربة ذكورا للوقوف على حجم الظاهرة، جرعات كبيرة من العنف اللفظي و”التنمر الإلكتروني” حد التخمة بشكل لم يعد يخفى على أحد، إلى درجة باتت فضاءات التواصل الاجتماعي ساحات لتدمير نفوس الناس، وحصصا يومية لجلد الآخر المختلف.. أشخاص عاديون كما مشاهير وشخصيات عمومية كلهم وقعوا في “فخاخ” المتنمرين والمتنمرات، ولا يبدو أن الظاهرة قابلة للتراجع، على الأقل على المدى القريب.
قصص كثيرة يرويها مغاربة ومغربيات في هذا الباب. بمدينة مكناس نجد شكلا آخر للمعاناة لدى سلمى بنمسعود، 23 سنة، حكاية مختلفة تماما.. “كان الحجاب ساتر ليك دوك الشحومات، دابا مسختي، عمر ربي يسهل عليك”، عبارة رددتها بألم بعد أن ألقى بها في وجهها أحد المتنمرين في تعليق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي التفاصيل تحكي الشابة الحاصلة على الماستر لـ”المغربي اليوم”: “كان هذا هو أول تنمر إلكتروني حقيقي بعد أن خلعت الحجاب لدواع صحية لا يعرفها أحد، ولن يعرفها يوما. لم أنس ولن يوما هذا التعليق وأتذكره وكأنه وقع بالأمس رغم أنه مرت عليه أربع سنوات. صراحة تعرضت للتنمر في ما قبل، لكن هذه العبارة سببت لي أذى كبيرا لأنها جمعت بالنسبة لي بين ظهرانيها كل شيء، الاستهزاء، الظلم، التنقيص، والكراهية…”.
تواصل سلمى حكيها وهي تمرر أصابعها المرتعشة على شفتيها “تعرضت ومازلت كثيرا للتنمر الإلكتروني بخصوص صوري مثلا، نظرا لكوني بدينة، رغم أنه لا مشكل صحيا لدي. لكن بات لزاما أن يخرج لي في كل لحظة شخص يغرد خارج السياق ويتدخل في أدق تفاصيل صحتي.. عليك باتباع الحمية، جميلة ولكن إذا أنقصت وزنك سيكون أفضل، سوف تمرضين ولن تجدي الأرجل التي تحملك… إلى درجة أتحول فيها للوم نفسي.. ربما عندهم حق فأنا آكل كثيرا، ربما أهملت نفسي، وأنا السبب لم يكن علي تناول أدوية الأعصاب التي تزيد من وزني، لم يكن علي نشر ذلك الفيديو أو لربما كان علي تعديله قليلا، الخطأ خطئي ربما، غالبا شيئا ما ينقصني، الناس أفضل مني على ما أعتقد… وأصعب شيء أنني أكون في تلك الفترة التي نشرت فيها الصورة مثلا أخضع لحمية غذائية وبرنامج صحي، وتكون النتيجة بدأت تظهر لي، فيخرج من يهدم كل شيء في تعليق وبكلمة غير طيبة. كل يوم أحس بأنني أعيد شحن بطارية الطاقة السلبية كلما فرغت بسبب هذه التعليقات الجارحة”.
تستمر الشابة في توصيف معاناة يومية، مع “جيش” المتنمرين والمتنمرات، موردة: “في يوم ما قررت ولوج واحد من المواقع المخصصة للناس للتعبير عن رأيهم فيك بكل صراحة، وهذا ما كان يحدث لأن الموقع يحجب هوية صاحب التعليق ومعلوماته، وليتني ما دخلت، إذ توصلت برسالة مجهولة مليئة بالدعاء على شخصي، وعبارات مخيفة من قبيل سأدمر حياتك وسأستعين بالسحرة والمشعوذين لإلحاق الضرر بك وبصحتك، فيذهب جمالك وينفض من حولك الناس؛ بل الأخطر من ذلك كانوا يفاجئونني بمعلومات ليس لأحد علم بها سواي، فكان ذلك الكلام وتلك الرسائل تتركني دون نوم، وأدخل في نوبة هلع خطيرة، لكن الحمد لله لم أعد ألج لذلك الموقع وارتحت نسبيا من همه”.
وتتوقف سلمى لحظة لتواصل: “لولا أبي حفظه الله لكنت أعيش حياة غير سليمة على جميع المستويات، وفي هذه اللحظة كان من الممكن أن أحاول تعذيب نفسي أو الانتحار بسبب التنمر الإلكتروني، فكلما تزعزعت ثقتي في نفسي كنت أقاوم بفعل شخصيتي القوية التي ساعدني أبي على تكوينها، ولن أنسى ذلك يوما وسأبقى ممتنة له للأبد”.
علي الشعباني، الأستاذ الباحث في علم الاجتماع بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بسلا، قال لـ”المغربي اليوم”: “ساهم جزء من الإعلام الحديث وموجة التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي التي باتت متاحة لمن هب ودب في رواج- إن جاز التعبير- ظاهرة التنمر الإلكتروني، إذ صارت هذه الفضاءات حقلا خصبا يستعملها العامة في الإيذاء وجرح مشاعر الناس، والقذف والسب والشتم والتشهير، وأداة من أدوات الانحطاط وتحطيم إرادات بعض الناس واقتحام خصوصياتهم ودواخلهم”.
وأضاف الباحث السوسيولوجي: “ظاهرة التنمر الإلكتروني من الصعب على الأقل في الوقت الحالي مواجهتها وعلاجها، فبعد أن كان الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي مثلا سبيلا من سبل التواصل والتثقيف والإخبار والتداول في عدد من القضايا، تحول جزء منه إلى ساحة للتنمر الإلكتروني والإساءة إلى الأشخاص”.
ويؤكد شعباني غياب أي مقاربة سوسوليوجية ودراسات في الموضوع، موردا: “إلى حد الآن وفي المغرب تحديدا هذه الظاهرة مازال يتحدث عنها الإعلام فقط، من خلال بعض الأخبار والقصاصات والفيديوهات والصور هنا وهناك، في غياب لدراسة أكاديمية رصينة تشتغل على مستوى العقليات ودراسة سلوكيات المتنمرين.. مازال الحقل السوسيولوجي والسيكولوجي ببلادنا لم يقتحم الظاهرة ويدرس هذا المستجد الخطير الذي قلب المفاهيم في ميادين التواصل والعلاقات. باختصار شديد من الناحية السوسيولوجية إلى حدود علمي في المغرب مازال الأمر يقتصر على بعض المقالات الصحافية التي تناولت نتائج هذا التنمر الإلكتروني ومخاطره، كالانتحار وإيذاء النفس وغيرها من طرق جلد الذات”.
وأوضح الباحث نفسه أنه “من الطبيعي أن يكون لظاهرة التنمر الإلكتروني ضحايا وتكلفة اجتماعية، كالانتحار وغيرها، بفعل غياب الوعي ونفسياتنا الهشة كثيرا وغياب الحصانة أو المناعة الذاتية التي تواجه سلوكيات المتنمرين، وكذا نقص في الوعي الذي يحلل هذه القضايا والانشغالات؛ فالفرد منا يكون في مرمى التنمر الإلكتروني موازاة مع وعيه الضحل وفكره الضعيف وحصانته الثقافية. وبجانب ارتفاع نسب الأمية والعديد من القضايا الاجتماعية الأخرى والضغوط، تنضاف إلى التنمر الإلكتروني بعض الاختلالات في السلوك والممارسات التي قد تصل حد الانتحار وردود فعل عنيفة تهز المجتمع”.
لم تقف جرائم المتنمرين والمتنمرات عند هذا الحد، إذ لم يعد يسلم منها أحد، فعدد من المتنافسين في انتخابات ثامن شتنبر 2021، التي عرفها المغرب، كانوا ضحايا لها كذلك.. سخرية من الشكل واللباس وأسماء الناس وألقابهم وأعمارهم ومستوياتهم الدراسية ومهنهم … وهو ما تناوله مثلا جزء من تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان بعنوان: “ملاحظة الحملة الانتخابية 2021 من خلال شبكات التواصل الاجتماعي”، الذي ورد فيه بالحرف “رصد المجلس منشورات عديدة للتنمر (bullying) ضد مترشحات أو مساندات بسبب المهنة أو اللباس أو شكل الصور في الملصقات الانتخابية، وصل في بعض الحالات إلى حد التحرش والإيحاءات ذات الطبيعة الجنسية أو مهاجمة المعنيات انطلاقا من لباسهن (جرى رصد أكثر من 500 منشور بخصوص إحدى الحالات في هذا السياق) “.
وسبق ذلك بسنة خلال الإعلان عن تسجيل أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد في المغرب، مطلع مارس 2020، تعرض المهاجرين المغاربة المقيمين في أوروبا تحديدا للتنمر الإلكتروني من طرف البعض، متهمين إياهم بجلب الفيروس للمغرب؛ ناهيك عن ملف “حمزة مون بيبي”، الذي عرى الوجه البشع للتنمر السيبيراني إلى درجة وصل بأصحابه للقضاء، إذ توبع على خلفيته مشاهير ونجوم وشخصيات من العامة، بسبب بث وتوزيع عن طريق الأنظمة المعلوماتية أقوال أشخاص وصورهم دون موافقتهم، وبث وقائع كاذبة قصد المساس بالحياة الخاصة للأشخاص قصد التشهير بهم والمشاركة في ذلك والتهديد، بجانب حكايات وقصص كثيرة لتنمر إلكتروني بات يمشي على رجلين.
صرخة داخلية
لعل تجليات هذه الظاهرة كثيرة عبر عوالم التواصل الرقمي كـ”المضايقة، تشويه السمعة، نشر الشائعات، انتحال الشخصية، الابتزاز الإلكتروني الخداع…”، بجانب ما يتسبب به التنمر الإلكتروني من آثار سلبية، من أهمها اكتئاب الضحية وصعوبة ثقته بالآخرين وفقدان الشعور بالأمان والتشتت الذهني واضطرابات في النوم والأكل. ومن أخطر الآثار وصول الضحية إلى مرحلة يظن فيها أن إنهاء حياته هو السبب الوحيد للخلاص من الحالة التي يعيشها والسبيل الأوحد لوقف المعاناة، خصوصا أن “الجريمة الإلكترونية” قد تتم أحيانا في سرية تامة نظرا لسهولة إخفاء الهوية وغياب العقاب المجتمعي والمادي…
بطانطان ولدت حكاية أخرى ترويها السعدية بلعنوان، 33 سنة، لـ”المغربي اليوم”،”خلال تعاملي مع الوسائط الاجتماعية أهم موقف يمكن تسجيله حين قررت الظهور بصورتي الشخصية لأول مرة كانت تعاليق تحقيرية أثارت اندهاشي كثيرا وحملت عبارات: “واش انت هذي واش مكتمشايش؟ أو زوينة ولكن مسكينة بقيتي فيا”.
بتأثر بالغ تستمر الموظفة بقطاع الصحة في السرد “أغلب المواقف التي أتذكرها كانت رسائل من مجهولين مليئة بالتنمر من وضعي وشكلي، وما لا أستطيع نسيانه إطلاقا إحدى الرسائل السامة التي تجاوزت التنمر إلى القذف والسب. أتفاجئ دائما بسيل من الردود على سبيل المثال: “شوفي انت راسك بعدا كيدايرا، أو “المعاقة” متبوع بقهقهات، رغم أنه لا أتذكر أني أنكرت إعاقتي، وبالنسبة لي التنمر الإلكتروني هو نفسه التنمر في الواقع، فقط بفظاعة أكبر وحرية أكبر وأصبح يخنق حرية كل مختلف”.
واستطردت السعدية قائلة: “صدقوني الانتحار والتفكير فيه سببه الأساسي هو التنمر وعدم احترام خصوصية الآخر، ما يدفع بالضحية إلى اعتزال العالم الافتراضي والزج بنفسه في عزلة لا تحمد عقباها. أتمنى صادقة أن ينضج العقل المغربي إلى درجة تقبل الجميع بغض النظر عن خصوصياته واختلافه الإيجابي”.
وإن كان الدعم بأي كيفية من الكيفيات غائبا لحدود اليوم لضحايا التنمر الإلكتروني بالمغرب أو على الأقل لا يعرفون له سبيلا فإن القانون الجنائي المغربي بدوره مازال لم ينصص على هذه العبارة ويدخلها ضمن فصوله وهو ما تفضل بتوضيحه الحبيب حاجي، المحامي بهيئة تطوان، بقوله “عبارة التنمر غير واردة في أي نص قانوني، كما أنها غير متداولة لدينا نحن المغاربة، فهي عبارة مترجمة إلى اللغة العربية عن طريق الترجمة غير المتخصصة، وبالتالي فهي غريبة عن التداول ولا يمكن سوى الحديث هنا عن السب والشتم والقذف والتشهير… وهي الكلمات والمصطلحات المتداولة قانونا وكذلك شعبيا. فالسب والشتم هو وصف شخص آخر بأوصاف مشينة وقبيحة تحقيرية فيها الحط من الكرامة والإهانة والقذف يختلف عن السب كونه إلصاقا لوقائع معينة لشخص وإدعاء ارتكابها أو أنها حصلت له..والتشهير هو عرض كل ما يسهل الحط من الكرامة والإهانة من أفعال وأقوال أو هما معا على العموم في وسائل الإعلام وما شابهها، الهدف من العرض هو الحط من الكرامة والمس بالحياة الشخصية ومكانة الضحية في المجتمع وبشرفه واعتباره”.
وأضاف المحامي: “المشرع المغربي واكب الإيذاء العمدي المعنوي الممارس إلكترونيا أمام العموم بشكل واسع ولم يترك أي فراغ فقط العقوبات تبقى خفيفة، وهناك تملص للنيابة العامة من القيام بواجبها في هذا الشأن بناء على دورية قديمة لوزير العدل السابق الرميد الذي حث النيابة العامة على توجيه الضحايا إلى مساطر أخرى غير الشكاية أمام النيابة العامة. وأعني تقديم الدعوى عن طريق الاستدعاء المباشر آو ما يسمى بالشكاية المباشرة أمام المحكمة وكذلك هناك صعوبات تعترض الضحايا، لأن المشتكى بهم لا يحملون هوياتهم الحقيقية ولا مكان معروفا لديهم، وأحيانا تجد أشخاصا بلا بيانات تصلح لقيام دعوى أمام المحكمة مباشرة، إذ من الضروري قيام الشرطة العلمية بالتحري وإنجاز المحاضر، شخصيا أرى أن السياسية الجنائية عليها الاهتمام بهذه الجرائم المرتكبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحديدا وتوسيع نطاق محاربتها، لأنها أصبحت ترتكب ع طريقها فظائع أخرى أهمها الابتزاز وتصفية الحسابات…”.
وشدد حاجي على خطورة الظاهرة قائلا: “هي خطيرة فعلا ومدمرة. خربت أسرا ودمرت أفرادا وتظل مستمرة . ما نحتاج إليه هو سياسة جنائية فعالة في الموضوع مع فتح المجال أمام التشكي لدى النيابة العامة وأمام الشرطة القضائية. وأن يكون هناك تكوين للقضاة في الموضوع وتفعيل المقتضى القانوني المتعلق بحجب هذه المواد الإلكترونية المسيئة والجرمية والمنع النهائي من الولوج إليها. مع تشديد العقوبات خاصة عندما تتصل بالابتزاز”.
تواصل هيبة، بعد أن عادت من الموت غير ما مرة بفعل محاولاتها المتكررة للانتحار، الإقبال على الحياة وصارت أكثر قوة مما مضى؛ فيما مازالت سلمى والسعدية تواجهان سلاح التنمر الإلكتروني بالحب والمقاومة، وبصدر عار مسلحتين بالأمل في غد خال من “البلطجة الإلكترونية”.