مميزات خطب عيد العرش تعكس أسلوب حكم محمد السادس: جرأة صراحة نقد ذاتي وعقلانية حداثية
الخطبة نص أُعد لكي يلقى أمام الجمهور بهدف الإثارة والإقناع، وكل الأمم تواطأت على تخصيص طقوس احتفالية مليئة بالرموز احتفاء بخطباء حاكميها، وفي المغرب ظلت خطب السلطان عادة مليئة بالقدسية ومصاحبة بمهرجانات كرنفالية، ومع اعتبار خطب الملك رسائل سياسية تحمل أجوبة على إشكالات المجتمع المغربي، فقد أضحت خطب العرش بمثابة التقرير الأدبي الذي يقدم الحصيلة للجالس على العرش، فما الذي يميز خطابات العرش لمحمد السادس؟
نضج أكبر من المتوقع في خطب محمد السادس
بعد عام على رحيل الملك الحسن الثاني واعتلاء محمد السادس سدة العرش، قال المحلل الفرنسي ريمي ليفو: “يمكن اكتشاف سمة أساسية تميز خطب الملك محمد السادس، وترتبط بالنضج والبحث عن شكل جديد من الإجماع الذي يساعد على هيكلة النظام السياسي والمجتمع المغربي بأفق مستقبلي”، في أفق آخر سبق أن صرح المفكر الكبير الراحل محمد أركون أن علق على خطاب العرش لعام 2004 قائلا: “إن خطب الملك محمد السادس تعكس بعد الانفتاح والنفحة الحداثية في مجتمع تقليدي”.
إن التوصيفات أعلاه غير صادرة عن مداحين للنظام السياسي ولا عن مستفيدين من مناصب أو إكراميات العاهل المغربي، فريمي ليفو ومحمد أركون لم يكونا من متضرري العهد البائد ليمدحوا يومها العهد الجديد، لذلك تملك آراؤهما صدقية عالية تقربنا حقيقة من خطب الملك محمد السادس خاصة تلك المرتبطة بعيد العرش.
المتأمل لأول خطاب للملك محمد السادس غداة جلوسه على العرش في نهاية يوليوز 1999 حتى اليوم خطاب عرش 2022، سيجد أن النهج العام المتحكم في هذه الخطب هو التغيير في ظل الاستمرارية، وهو ما يعكس بعد الانتقال الهادئ، لكن برسم هوية خاصة للملك محمد السادس وتصوره للمغرب الذي يستحقه المغاربة والذي جعله يقول ذات خطاب إنه معتز بتامغربيت.. تتمثل الرؤى الحداثية لخطب محمد السادس في تداول مفردات عديدة: المكية المواطنة، الملك المواطن، المشروع المجتمعي الحداثي، الخروج من ثنائية الانتهازية والبراغماتية…”، وفي المقترحات التي تسعى لإعطاب المملكة الشريفة بعدا دوليا جديدا من خلال التركيز على الثقة بإمكانيات المغرب وطاقات بناته وأبنائه في الذهاب بقوة نحو مستقبل أكثر ازدهارا..
تشخيص واقعي، تحليل هادئ ورصين ورؤيا مستقبلية
كانت خطب العرش على عهد الحسن الثاني تتميز بطقوس احتفالية تسبق الحدث وتواكبه لأسابيع طويلة، لأنها كانت تمثل جزءا من تمظهرات السلطة وأداة لفرض هبة النظام السياسي وصناعة الإجماع حول الملكية وفق المنظور الحسني،، كانت خطب عيد العرش زمن الملك الراحل تحاط بهالة من أجواء الاحتفال والترميز حيث أضحى العيد الوطني الأول بالمملكة، وكان الملك الراحل يختار توقيته الخاص لإلقاء خطابه فقد تعلن وسائل الإعلام الرسمية عن الثالثة زوالا ولا يداع إلا مع الثامنة مساء وما فوق، وكان يفرض على كل المؤسسات متابعة هذا الخطاب..
بعكس ذلك، خرق محمد السادس هذه التقاليد فقد أصبح الملك وفيا لموعد الخطبة بدقة أكبر، واندثرت أو تقلصت الطقوس الاحتفالية المرافقة للحظة إلقاء الخطاب من أغاني وطنية تمجيدية، وعلى خلاف خطب الملك الراحل في عيد العرش التي تكتب بلغة مليئة بتقاليد البلاغة القديمة مثقلة بالمعجم الديني والوفاء لديباجات الصياغات القديمة للخطبة فإن خطب محمد السادس تحررت من اللغة الرصينة وأضحت أكثر إيجازا ودقة وأكثر تركيزا ووضوحا، قاموسها يمتح من لغة عصرية ومفاهيم مستعارة من الخطاب الديمقراطي وبخلفية حداثية، ففي خطاب للعرش استعمل العاهل المغربي كلمة الملكية المواطنة لأول مرة في تاريخ الملكية، وأصبح مفهوم المواطنين حاضرا أكثر من لغة الرعايا، وأضحت الإشارة إلى مسؤوليات رجالات الدولة بمناصبهم ووظائفهم مثل الوزير الأول والوزير الفلاني بدل الحديث عن خدام الأعتاب الشريفة.. مما يرسخ بعد الميل إلى استخدام لغة عصرية تعكس توجها نحو البعد المؤسساتي المحدد لكل بنيان ديمقراطي للدولة عن غيره..
بالمقابل هناك تقليص قوي في خطابات العرش خاصة والتي ظلت موغلة سابقا في لغة مخزنية تقليدية، تصدى خطاب العرش لعام 2001 و2002 على سبيل المثال لا الحصر لمفهوم “اقتصاد الريع” والانتهازية والشعبوية” مما يعكس ميلا واضحا لدى محمد السادس لاستعمال لغة حديثة برهانات جديدة يتحكم فيها المكتوب، كإطار للتعاقد بدل الشفوي مميز خطابات الراحل الحسن الثاني وجزء من الدولة التقليدية أيضا..
إن خطابات محمد السادس بمناسبة عيد العرش تحمل في غالبها بعد القضايا الكبرى والقرارات المصيرية، بل تعتبر أحيانا أشبه بخيارات الدولة التي تحمل بعدا استراتيجيا وتمتلك رؤيا مستقبلية للتحولات القادمة، يقول في خطاب العرش الذي وجهه من فاس في 30 يوليوز 2007 :”لقد حرصت، منذ توليت أمانة قيادتك، على أن أجعل من خطاب العرش محطة لترسيخ الخيارات الكبرى، واستشراف التوجهات المستقبلية، التي نسهر دائماً على بلورتها، بروح الثقة، وبعد النظر، والإرادة القوية، في وفاء للبيعة ، بما تقوم عليه من التزامات متبادلة بين العرش والشعب”.
النقد الذاتي واستشعار التقصير والرغبة في تجاوز الأخطاء
في خطابه الموجه إلى الشعب بمناسبة ذكرى جلوسه على العرش لعام 2014 قال العاهل المغربي:” أتساءل يوميا، بل في كل لحظة، وعند كل خطوة، أفكر وأتشاور قبل اتخاذ أي قرار، بخصوص قضايا الوطن والمواطنين : هل اختياراتنا صائبة ؟ وما هي الأمور التي يجب الإسراع بها، وتلك التي يجب تصحيحها ؟ وما هي الأوراش والإصلاحات التي ينبغي إطلاقها ؟
أما إذا كان الإنسان يعتقد أنه دائما على صواب، أو أنه لا يخطئ، فإن هذا الطريق سيؤدي به إلى الانزلاق والسقوط في الغرور. ومن هنا، فإن من حقنا جميعا أن نتساءل : هل ما نراه من منجزات، ومن مظاهر التقدم، قد أثر بالشكل المطلوب والمباشر على ظروف عيش المغاربة ؟ وهل المواطن المغربي، كيفما كان مستواه المادي والاجتماعي، وأينما كان، في القرية أو في المدينة، يشعر بتحسن ملموس في حياته اليومية، بفضل هذه الأوراش والإصلاحات ؟”
تعكس نبرة هذا المقتطف من خطاب محمد السادس بعد النقد الذاتي النابع من الجرأة في قول الحقيقة مهما كانت صعبة وقاسية، ليس بهدف التيئيس ولكن بهدف التقويم والتصحيح والمراجعة والقيام بالتغذية الراجعة في كل خطوة، فالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي مشروع ملكي ضخم واستراتيجي، ولكن التساؤل عن نجاعته وأثره على المواطنين بجرأة وصراحة هو جزء من البحث عن النجاعة والفعالية وهذه هي الساسة الجديدة التي ميزت نهج محمد السادس كما وردت في خطبه وكما تعكسها ممارسة ملك جعل عرشه ليس متمركزا في القصور والكراسي المريحة، فملايين الكيلومترات التي قطعها إلى دواوير ومداشر يصعب المرور منها حتى من طرف أهاليها المتمرسين بظروف شظف العيش وقسوة الطبيعة ومرارة الإقصاء والتهميش.. جعلته يحس بحجم الخصاص ومحدودية أثر سياسة جديدة اتجاه ما تراكم من تخلف وتهميش.
الفقر، العدالة، التعليم، بطالة الشباب… هذه أهم محاور خطب العرش على عهد محمد السادس
لا يمكن عزل خطاب الحاكم في أي أمة عن السياق العام ، فالمناسبة شرط محدد للتوجهات والخيارات، وبالنسبة للملك محمد السادس هناك زمن جديد وإكراهات مغايرة، فإذا كانت طبيعة الصراع السياسي على عهد الراحل الحسن الثاني جعلت خطبه تحمل طابع الهجوم على خصومه والدفاع عن شرعية الحكم المتنازع حول شكلها بين قوى كبرى محليا وإقليميا ودوليا بعد الاستقلال وعلى امتداد الحرب الباردة من هنا جاءت خطب الملك الراحل في عيد العرش بترسيخ التقاليد والأعراف التقليدية والتنصيص على البروتوكول للإعلاء من موقع الملكية، فإن المهيمن على خطب الملك محمد السادس هو الهم الاجتماعي والاقتصادي، لذلك فإن جل القرارات الكبرى على المستوى الاجتماعي اتخذت في 30 يوليوز بمناسبة ذكرى تربعه على العرش، من هنا حضور الهامش بقوة في خطب الملك محمد السادس بقوة وعوامل إعاقة التنمية البشرية ومعاناة المقصيين والمهمشين من ذوي الاحتياجات الخاصة أو النساء أو الفئات المحرومة…
لا يميل الملك محمد السادس إلى تضخيم المقدس، صحيح إن الروح الأبوية للملك تظل حاضرة لكن نحس في خطبه بمناسبة عيد العرش بقلق الباحث لا اطمئنان الحاكم الذي يملك الحقيقة ويتغنى بنتائج سياسته الرشيدة ويوزع الأحلام السعيدة على رعاياه، لذلك نجح العاهل المغربي في تكريس صورة ملك الفقراء والمهمشين والمقصيين من السياسات العمومية كانوا أفرادا أو جماعات، أشخاصا أو مناطق أو فئات، وهذا ما عناه ريمي ليفو باتقان محمد السادس لدور الوسيط الطبيعي بين الجهات والفئات والشرائح التي يسمح تطورها بالحفاظ على تكتل المجتمع المغربي وتوحيد لحمته.
ومن خلال تحليل جل خطب العرش نلاحظ أن الموضوعات المهيمنة كلها ذات طابع اجتماعي كالتعليم وبطالة الشباب والعدالة.. حتى أضحت خطب العرش على عهد الملك محمد السادس بمثابة برامج سياسية تحدد المسار الذي يجب أن يشتغل فيه جل الفاعلين حكومة وأحزاب ومنظمات ومؤسسات، هذا التوجه فرض لغة حداثية تستقي تعبيراتها من حقول الديمقراطية والحكامة وحقوق الإنسان، وربط المسؤولية بالمحاسبة.