2 نونبر 2024

المحامي المبدع والمثقف الوطني وكتابة السيرة الذاتية ( محاولة في النقد الادبي)

المحامي المبدع والمثقف الوطني وكتابة السيرة الذاتية  ( محاولة في النقد الادبي)

  • بورتريه النقيب ذ. إبراهيم صادوق: البورتريه شكل من الكتابة يهدف إلى رسم الصورة الشخصية بكيفية شبيهة ومماثلة. وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح في مجال النحت، ثم تَمَّ استثماره في الأدبيات الروائية التي تُعْنـَى برسم الشخصيات ووصفها وتحديد ملامحها الجسدية والنفسية والمعرفية والأخلاقية…
    والباعث على محاولة هذا البورتريه صداقة ثقافية وإنسانية قديمة وممتدة تفوق عقدين من الزمن، ثم انتخاب النقيب الأستاذ إبراهيم صادوق رئيسا للهيئة الوطنية للعدالة بما يحمله هذا الانتخاب من معاني ودلالات بصفته إضافة نوعية للرأسمال الرمزي الذي راكمه الرجل على امتداد عقود، وعلى واجهات وجبهات متعددة؛ إذ تطمح الهيئة إياها إلى مواجهة كافة التحديات التي تواجه مهنة المحاماة، وخاصة منها ما يرتبط بالواجهة التشريعية: مشروع قانون المسطرة المدنية ومشروع قانون المسطرة الجنائية وقانون مهنة المحاماة، وهي مشاريع سوف ترتهن المهنة في المقبل من الأيام.
    ومن الموائم لفت الانتباه إلى أن البورتريه الذي تحاوله هذه السطور عبر اللغة والكتابة يستثمر في بنيته آليات البورتريه ومواصفات الشهادة التي يكتبها صديق عن صديق له رافقه في الكثير من المحطات داخل اتحاد كتاب المغرب وخارجه. ولا شك أن بعض مكونات هذا ا لبورتريه يمكن أن يتعرف عليها القارئ عبر سطور السيرة الذاتية للنقيب والتي صدرت في شهر ماي عام 2007 تحت عنوان: في رحاب المحاماة: مقاطع من سيرة ذاتية. وكلمة ” المقاطع” الواردة في هذا العنوان تشير استباقا إلى بعض مناقب الرجل وخصاله: التواضع والبساطة؛ كما تشير ثانيا إلى أن الكتاب سيرة غير مُكْتَمَلَة ويقدم فقط شذرات من حياة صاخبة ومفعمة بالاشتباكات السياسية والثقافية والمهنية؛ وتومئ ثالثا إلى نزوع الكتابة بكيفية أكيدة صوب شعرنة خطابها السردي، أي تعبئة هذا الخطاب بالمكونات الجوهرية للشعر.

النقيب ذ. إبراهيم صادوق من الجيل الذي تشكل وعيه ومداركه في السبعينيات من القرن الماضي، وعلى امتداد أزمنة الجمر والرصاص والغبار. وكان صديقا للمرحوم عبد السلام المودن و رفيقا له في الأفكار والمبادئ والمواقف. واسم عبد السلام المودن لا يشير إلى شخص، بقدر ما يشير إلى رمز ودلالة، أي إلى علاقة تاريخية نعرف طموحاتها وآمالها وانكساراتها وخيباتها…
النقيب مثقف منخرط و متميز مبنى ومعنى. فما عناوين هذا التميـُّز؟

  1. الاستمرار والمثابرة في الدفاع عن قضايا الوطن فوق ما يربو عن أربعة عقود؛ وعلى رأس هذه القضايا أسئلة الديمقراطية ودولة العدل والحق والقانون….
  2. لم ينحصر اهتمام النقيب في المجال الحقوقي – القانوني، بل استمر متدخلا وفاعلا، من موقع وبموقف، في الحقول المجتمعية والثقافية والسياسية والنقابية. ويدل ذلك على الانخراط في نضال متعدد الجبهات ومتنوع الواجهات، متكامل في الرؤية التاريخية المتحكمة به، والتي تعود في شق منها إلى تكوينه وعلاقاته مع الفاعلين في الحقول التي شكلت مضمار تدخلاته..
  3. الارتباط بأسئلة الوطن وقضايا المواطنين بناء على جدل النظرية والممارسة. وهو ما منحه قوام كاريزمية نادرة في حقل المحاماة كما في مجالات العمل ضمن المجتمع المدني والثقافي، والسياسي قبلهما.
  4. بمقتضى جدل النظرية والممارسة، واظب النقيب ولازال يواظب على ممارسة فاعلة أنتجت، ولا تزال تنتج، فكرا فاعلا يفتش باستمرار عن إجابات مبدئية وواقعية لأسئلة عملية تطرحها مجالات الحق والعدل والمحاماة وعموم الحقل القانوني. وفي عملية التفتيش هذه، يبتعد النقيب عن الشطط النظري والجنوح في الخيال والنوايا الواهمة، ويتسلح بالصمود أمام جميع الكوابح والمثبطات التي تفرمل حركة التاريخ والمجتمع والمؤسسات والأفراد.
  5. يؤمن النقيب بأن الممارسة معيار الحقيقة. وكل ممارسة يجب أن تكون مبدئية ومرنة وواضحة وشفافة. ولا تستوي المبدئية مع التصلب والانغلاق، كما لا تستوي المرونة مع المساومة والمهادنة.
  6. تتوكأ ممارسات النقيب صادوق وسلوكاته اليومية على مرجعية ثقافية يتوحد فيها الأصيل والحديث. فالرجل يحفظ القرآن عن ظهر قلب وقرأ مئات النصوص الروائية ويستظهر الغزير من الشعر القديم والحديث، هذا علاوة على ما تمتلئ به حافظته، أي ذاكرته، من نصوص ومساطر قانونية…إنه باختصار مثقف قريء.
  7. يرفع النقيب صادوق عاليا لواء الحوار في جميع مقامات الخلاف والنزاع والتدافع. وهو رجل حوار بامتياز. يحاور كأنه يرافع، ويرافع كأنه يحاور بلغة تثير الإعجاب في فصاحتها وبيانها اللذان نعدمهما لدى الكثير ممن يزعمون الانتساب للحقل الحقوقي أو الثقافي. لقاءات عديدة جمعتنا في أنشطة اتحاد كتاب المغرب بمراكش تشهد بذلك، مثلما تشهد بأناقة وعمق تدخلات الصديق المرحوم الأستاذ عادل بن حسين عضو هيئة المحامين بمراكش، وهو مثقف تونسي من طينة متميزة وعيار جدير بالتقدير والإكبار.
  8. يظل النقيب صادوق، في جميع المحافل، نموذج المثقف المحاور المتسامح المتميز بجملة مناقب وخصال تؤثت اسمه: فهو فقيه محامي صبور ومتواضع وخلوق ومتفائل وكريم بار وخير وسموح وشجاع ومخلص ووفي لرفاقه وزملائه وأصدقائه ومبادئه…وفي لروح أبيه الحاج الطاهر الذي نعرف الكثير عن شيمه ومناقبه إن نحن انهمكنا في قراءة سيرة الزميل النقيب إبراهيم صادوق: في رحاب المحاماة – مقاطع من سيرة ذاتية، وهي السيرة التي نأمل أن ترى النور في طبعة ثانية بعد نفاذ طبعتها الأولى منذ فسحة غير يسيرة من الزمن.
  • منذ شهر ماي عام 2007 وبروح إبداعية عالية، أصدر الأستاذ النقيب إبراهيم صادوق كتابا أدبيا تحت عنوان : في رحاب المحاماة – مقاطع من سيرة ذاتية. وعنوان الكتاب يومئ في شقه الأول إلى موضوع الحكاية ومجالها : المحاماة، وهو في شقه الثاني يدرج هذه الحكاية ضمن جنس أدبي متميز : السيرة الذاتية.
    والكتاب ذو أهمية لا تقدر بثمن. ولا تعود أهميته فقط إلى أننا ننصت في سطوره إلى كل ضجيج الوطن العربي، من المغرب إلى فلسطين فالعراق، كما لا تعود هذه الأهمية إلى التجربة الذاتية الواسعة الأمداء التي يحكيها، إذ في الكتاب شيء من الحب وأشياء من المحاماة والعدل والحق والقضاء، وإنما ترتبط قيمته وأهميته، علاوة على ما سلف، بقضية جوهرية قد تلخصها كلمة واحدة : السبق، إذ في حدود ما نعرف، فالأستاذ النقيب إبراهيم صادوق أول المشتغلين في حقل المحاماة والعدل والقضاء الذي تجاسر على كتابة سيرته الذاتية، ولم يجرؤ أحد قبله، داخل الحقل الحقوقي، على المبادرة بمثل هذه المغامرة الأدبية الجميلة جدا.
    ونأمل أن يكون هذا الصنيع الأنيق والمتألق حافزا يلهم المهتمين والمهمومين بقضايا الشعب والوطن من رجال العدل والقضاء والمحاماة، فيبادروا بكتابة سيرهم الذاتية التي لا نشك إطلاقا في أنها ستكون مفيدة للجميع، بداية من المحامين الشباب، وصولا إلى كافة الفاعلين في الحقل الحقوقي، والثقافي عموما.
    ويشرفنا من الموقع الثقافي الذي نحن فيه، أن نتذكر ونحن على مشارف شهر ماي 2020 لحظة ولادة هذا المنجز الأدبي، الذي أعقب أخاه البكر: مهددات الأمن الوطني والقومي. ويسعدنا أن نحيي روح الأبوة العالية لدى النقيب الأستاذ إبراهيم صادوق، طالما أنه أبى إلا أن يهدي كتابه إلى ابنته الغالية الطفلة الوديعة: غيثــة. وما نطقت به يمينه في الإهداء، يترقرق في لغة شعرية باذخة تقول:
    “إلـى من تجدل ضفائر ضياء القمر
    حتى ينير بهو أزمنة قادمــة
    إلـى بنيتي غيثــة”.
    وبمثل هذه اللغة الشعرية التي تحمل الكثير من النوايا الأدبية الجميلة، تتوشح سيرة الأستاذ النقيب. نقرأ في الصفحة الثامنة والستين :
    “كانت البلاد قد خرجت لتوها من المغامرة الدونكيشوطية للصخيرات والطائرة، وأعلنت مغربة 74 وانطلاق المسلسل الديمقراطي، وزحفت في مسيرة سلمية نحو الصحراء المغربية وأصدرت قانونا انتخابيا جديدا، وانتعش فيها الحقل الفكري والثقافي مع العروي والجابري وسالم يفوت وحميش وبنيس واللعبي وزفزاف والسطاتي وغيرهم…”
    الكتاب جدير بالقراءة في مقامات الاحتفاء والاحتفال، إذ شكل مبادرة لامعة في حقل كتابة السيرة الذاتية، وإذا كان ماء الحكي في هذه السيرة يترقرق دافقا، فإن صلبها وترائبها يظلان مفتوحين على احتمالات المعنى وممكنات السرد أو ما سماه هيجل: البرامج السردية. وهذا الانفتاح هو ما يمنح كتاب: في رحاب المحاماة تعددية تحض على القراءات المتعددة من جهات نظر ديمقراطية ومتسامحة. والنظر بعين العدل في هذا النص يبيح الشهادة بتميزه ومتعته وإثارته للدهشة القائمة على المزاوجة بين جماليات المتخيل وعنف الواقعي.
  • من الواضح أن سيرة النقيب الذاتية موصولة بخلفية تاريخية كاملة التحديد والتعيين؛ وهي لا تهم فقط التاريخ الشخصي، وإنما تهم بالأحرى التاريخ المجتمعي لمغرب ما بعد الاستقلال، وتحديدا لما تواضع الكثير من الكتابات على تسميته سنوات الجمر والرصاص والغبار. هكذا نقرأ في كتاب النقيب أمورا عن محاكمة مراكش 1971 التي توبع فيها وطنيون من العيار الوازن: محمد الحبيب الفرقاني وعبد الرحمن اليوسفي ومحمد اليازغي وعبد السلام الجبلي والفقيه البصري وعمر دهكون والحسين المانوزي والفقيه الفكيكي… وغيرهم؛ كما نقرأ في سطورها (من ص 96 إلى ص105) محاكمة مجموعة مراكش عشية انتفاضات يناير 1984؛ وهي المحاكمة التي توبع فيها مناضلون وطنيون غيورون على كرامة شعبهم ومنهم: محمد بلبرك و عبد الصمد الطعارجي ومحمد عباد وبنيوب جمال و مولاي رشيد الإدريسي وخالد نارداح ومحمد المصريوي والحراث حسن ومصطفى الحميدي وعبد اللطيف العطروز والشهيد مصطفى بلهواري والشهيد مولاي الطاهر الدريدي وعبد العزيز معيفي وعبد الرزاق النيكر ومحمد اليونسي… وغيرهم، وعددهم ستة وثلاثون، ممن ضمتهم قاعة المحاكمة وهي بالمناسبة نفس القاعة التي جرت فيها أطوار محاكمة 1971.
    وحين متبعة قراءة تفاصيل هذه الصفحات، يتأكد بوضوح أن السيرة تفترق عن التاريخ والخطاب السياسي على مستويين: قوام المستوى الأول: اللغة، فلا وجود لنص سيرذاتي إلا بلغة نثرية تختلف عن اللغة النظرية التقريرية، ذلك أن السيرة الذاتية، كما الشعر، لعب في اللغة وبها ومعها، وسجال ضد “اللغة الفقيرة المتكلسة الجاهزة”. وضمن المستوى الثاني، تقوم السيرة الذاتية في المتخيَّل، أي تلك القدرة على اشتقاق عوالم متعددة من المعيش اليومي، تتجاوز المرئي وتنفيه وتجعله أكثر وضوحاً. والمتخيل السيرذاتي، بداهة، يغتني ويتطور بالنفاذ إلى العالم الداخلي للإنسان، والمليء بالأحلام والكوابيس وبمفارقات الحياة والموت. المتخيل، في نهاية المطاف، شكل من المعرفة، يبدأ من معرفة ويفضي إلى أخرى مستجدة. ومن السخف اعتبار المتخيل لعبة ذهنية شاردة، فذلك يسمى: الوهم؛ وهو من اختصاص الكتبة الزائفين، وليس من تقاليد محامي مبدع ومثقف وطني كتب سيرة ذاتية جديرة بالاعتبار والقراءة والمقاربة والتأويل.
    د. عبد الجليل بن محمد الأزدي
    مراكش 26 أبريل 2020.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *