عولمة الوباء
سؤال! لماذا أفزعت كورونا العالم، علما أن الإنسانية سبق و أن عرفت، على مدى التاريخ، أوبئة أكثر عدوى و أشد فتكا من كورونا؟
المرجح هو أنه لأول مرة في تاريخ الإنسانية نعيش عولمة الوباء (globalisation de l épidémie): نفس العدوى، نفس الأعراض، نفس الفزع، نفس الضحايا، ولو بدرجات متفاوتة، وفي نفس الوقت، و في كل القارات. من ووهان الى السبت آيت رحو. و كما قال أحد الظرفاء في تعريف طريف لمقاربة العولمة :” واحد شرب زلافة ديال الحريرة ديال الخفاش فووهان، و أنا محبوس في زاكورة”. كلام طريف لكنه يسوق في طياته حمولة دلالية تلامس عمق مفهوم العولمة.
في أواسط التسعينيات، لما أخذت فكرة العولمة تطفو على السطح و أصبحت موضوع نقاش عمومي، لم نستوعب الفكرة في غورها، طبعا خارج التعريفات و التوصيفات المتداولة آنذاك، من قبيل القرية الصغيرة (village planétaire/ global village), تحكم، سيطرة، سقوط الحواجز و الحدود الاقتصادية، الاستيلاب (l aliénation)، تهديد الهوية و القومية، إلخ. لكن و مع حدوث الثورة الرقمية (révolution numérique/ digital revolution) أصبحنا نستوعب أكثر فأكثر هذا المفهوم، و الذي أصبح فيه العالم من زجاج، الكل يطل على الكل، لتتجلى فكرة “القرية الصغيرة” و هو ما تسبب في إنهيار أنظمة بفعل تأثير نماذج إستهلاك عالية، مقابل دخل محدود، الشيء الذي خلق نوعا من اليأس والإحباط في النفوس، ليحيي لاحقا تطلعا متجددا فنحو المزيد من المساوات، والعدل و الرفاه.
و حتى نعود إلى طرفة أخرى، على لسان أحد المفكرين الذي علق على واقع التعليم في المجتمعات العربية، قائلا: “و كأني بالكل يعرف مؤخرة كيم كاردشيان، ولا أحد يعرف مقدمة ابن خلدون”. في إشارة منه إلى الإنبهار و الإستلاب بالغرب، على حساب إهمال موروث فكري عربي رائد.
صحيح عاشت البشرية أوقات عسيرة مع المرض و الوباء، مند الطاعون الأسود (la peste noire) و هو اول وباء تم التعرف عليه علميا، وتسبب في إزهاق أرواح نصف ساكنة أوروبا إبان القرن 14 على مدى 5 سنوات. ثم جائحة الكوليرا التي حصدت الآلاف من الضحايا في العالم خلال القرن 19. و عند بداية القرن 20 ظهرت الانفلوانزا الإسبانية (la grippe espagnole) و تسببت في خطف ألاف الأرواح، قرابة 100 مليون شخص أي ما يعادل % 5 من ساكنة العالم. و حتى حدود بداية الألفية الجارية، أي سنة 2009 بدأ الحديث عن وباء جديد سمي بإنفلونزا الطيور ( la grippe aviaire), وأحيانا إنفلونزا الخنازير (la grippe porcine) حسب الحيوان الذي يحمل الفيروس، و لم يكن أقل فتكا بالبشر و الحيوان. وأبان سنة 2013, إهتز العالم بفعل وباء جديد أطلق عليه إسم إيبولا (Ebola), ظهر في القارة الإفريقية و خلف ما يفوق بكثير 11,000 قتيل، ولم يتم وقف زحف إيبولا إلا عند حدود 2018.
الملاحظ هنا أن هذه الأوبئة(épidémies) نوعان، نوع مستوطن (endémique) ظهر في مناطق جغرافية محدودة، و نوع هم فضاء أوسع ( pandémique) كونه إجتاح العالم، مما يفسر وصف الجائحة. وهو تعبير جاري عند المغاربة “درباتو الجايحة”.
هناك الكثير من الأطروحات تتحدث عن نسبة وفيات الأنفلوانزا الموسمية (la grippe saisonnière) والتي تقدر، حسب المنظمة العالمية للصحة، ب 700,000 سنويا، على وجه المقارنة. لكنها مقارنة غير موفقة، إعتبارا لكون كورونا تتفوق على مستويين: مؤشر العدوى (indice de contagiosité)، و نسبة الفتك (taux de létalité) بمعنى نسبة الوفاة المرتبطة بالوباء. وهنا نستخلص ان نسبة فتك Covid 19 في حدود %3 بمعنى 30 مرة وأكثر من الانفلوانزا الموسمية التي لا تتعدى %0,1.
يتضح اليوم أن العالم أصبح فعلا تلك “القرية الصغيرة”، و أكثر من أي وقت مضى، بعد جائحة كورونا. قرية يهددها الوباء، و يحول شوارعها و أزقتها الى فضاءات مهجورة، في مشهد ديستوبي
(dystopique) رهيب يوحي بسيناريوهات نهايةالعالم، فأكثر من ثلث ساكنة المعمور في حظر صحي،. صور و تسجيلات تجسد نفس الوضع, نفس السخرية، و نفس الفزع، و من كل بقاع العالم، و الكل يصارع الزمن و يقاوم الخوف من أجل البقاء و من أجل الحياة. كما جسدتها بروعة الروائية الإيطالية الشهيرة، Francesca Melandri, و هي تعيش الحظر الصحي لأكثر من ثلاث أسابيع، من خلال رسالتها الموجهة الى الفرنسيين بعنوان: ” اكتب إليكم من مستقبلكم” (Je vous écris depuis votre futur) وهي تستهل رسالتها بالقول:” نحن الان حيثما ستكونون في غضون الأيام القليلة القادمة، فمخططات الجائحة تبين أننا إنضممنا إلى بعضنا البعض في رقصة متوازية. كل ما في الأمر أننا متقدمون عليكم بخطوات قلائل على طريق الزمن، تماما كما هي ووهان متقدمة علينا ببضعة أسابيع”.
لهذا أرعبت كورونا العالم.
محمد أوزين وزير سابق