بنكيران المعارض
علي أنوزلا
بعد عدة شهور من الصمت والاعتكاف، قرّر الأمين العام لحزب العدالة والتنميةورئيس الحكومة المغربية السابق، عبد الإله بنكيران، الخروج إلى العلن، والعودة إلى الفضاء العام، لكنه اختار هذه المرة أن يعود بجلباب المعارض، على الرغم من أنه يحمل صفة رئيس الحكومة السابق، والأمين العام للحزب الذي يقود الحكومة الحالية.
حمل خروج بنكيران أخيرا عدة رسائل إلى عدة جهات داخل الحزب وفي السلطة، وغلبت على خطابه نبرة المعارض أكثر منها نبرة الإصلاحي الذي ظل يتقمص جلبابه طوال السنوات الخمس الماضية، هي عمر الحكومة التي رأسها. ومع أن نبرة النقد لم يفقدها خطاب بنكيران حتى وهو يرأس الحكومة، عندما كان يتحول إلى معارض للسلطة نهاية كل أسبوع، كلما ترك مقر رئاسة الحكومة، وعاد إلى مقر حزبه، إلا أن النبرة الجديدة لخطابه تختلف عن كل ما سبقها.
حمل خطاب بنكيران الجديد بين طياته مرارة الإحساس بـ “الإهانة” التي ما زالت تعتمل في داخله، جرّاء إعفائه من رئاسة الحكومة، وهو ما شبهه هو نفسُه بـ “الزلزال” و”المحنة”، و”الورطة” و”الامتحان الصعب”. وفي الخطاب نفسه، نلمس كثيرا من اللوم والتأسّي والمرارة، نتيجة الشعور بالخذلان والإحساس بالطعن من الخلف من “أهل الدار”، كما قال، في إشارة واضحة إلى “انقلاب” أعضاء قياديين من حزبه عليه، و”خيانتهم” له، عندما قبلوا الشروط التي ظل يرفضها ستة أشهر، وكانت وراء إعفائه من رئاسة الحكومة.
يقوم خطاب بنكيران المعارض على مقولته الجديدة إن “المغرب مهدّد بالزوال والاستعمار إذا استمر الوضع كما هو عليه”، لكنه لا يقدم حلا جديدا للوضع الذي وجد عليه المغرب عندما تولى رئاسة الحكومة عام 2011. يومها، اعتمد بنكيران خطة “الإصلاح من الداخل”، والتي أثبتت فشلها، بعد أن أزيح من رئاسة الحكومة بالطريقة المهينة التي مسّت كرامته، وخدشت كبرياءه. وفي المقابل، لا يأتي بنكيران بجديد، وحتى عندما يتبنى خطابا معارضا يظل في عمقه “إصلاحيا”، ومشكلته أنه لا يرى الإصلاح إلا إذا كان هو من يقوده، حتى بوصفه معارضا!
اختار بنكيران نبرة المعارض، لأنه يعرف أن عودته إلى الحكومة باتت مستحيلة، وبرّر تشبثه بالعمل السياسي بالقول إنه “لن يستسلم” بوجود مطلب داخلي عبر عنه أعضاء الحزب، ومطلب خارجي معبر عنه داخل المجتمع. لكن أمام استمرار بنكيران في المعترك السياسي ثلاثة حواجز عليه تجاوزها.
الأول، قانوني، يتعلق بتعديل القانون الداخلي لحزبه، بما يسمح له بالبقاء في أمانته العامة لولاية ثالثة على التوالي، فقانون الحزب الحالي يحدّد ولاية الأمين العام في ولايتين، وقد قضى بنكيران ولايتين وسنة إضافية تم تمديدها له. وأمام الانقسام الكبير داخل صفوف قيادات الحزب، بسبب الاصطفاف الذي سببه إعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة، يبدو من الصعب التمديد له لولاية ثالثة، وقد بدأت بعض الأصوات، بما فيها التي كانت تدين له بالولاء والطاعة داخل حزبه باستنكار فكرة التمديد له.
والحاجز الثاني يتمثل في التناقض الكبير الذي يجد بنكيران نفسه أمامه اليوم، فهو حتى الآن يبقى أمين عام الحزب الذي يقود الحكومة، وفي الوقت نفسه صاحب خطاب معارض للحكومة وللسلطة معا، وفي هذا مفارقة كبيرة، لا يمكن أن تستقيم، بل وتضع صاحبها في موقفٍ حرج، الخاسر الكبير فيه مصداقيته ومصداقية الحزب الذي ينتمي إليه.
أما الحاجز الثالث، وهو الأصعب، لأنه يتداخل فيه ما هو سياسي ونفسي وموضوعي. فبنكيران المعارض الذي ينتقد اليوم السلطة، ويهاجم الاستبداد والفساد، هو نفسه رئيس الحكومة السابق الذي استسلم للاستبداد، وطبَّع مع الفساد خمس سنوات، هي فترة ولاية حكومته. ومن ردود الفعل الأولية على مواقع التواصل الاجتماعي على خطاب بنكيران المعارض، يَلمس المتتبع حدة النقد، بل و”التشفي” عند رواد المواقع الاجتماعية من رئيس الحكومة السابق الذي ظل يدافع عن الاستبداد والفساد، من موقع المسؤولية، وجاء اليوم يعد بمحاربتهما من موقع المعارض الذي يريد أن يلعبه مستقبلا.
فهل ينجح بنكيران “الإصلاحي” في التحول إلى معارض للسلطة والنظام اللذيْن انقلبا عليه؟ تقول المؤشرات إن بنكيران فقد كثيرا من مصداقيته عندما كان رئيسا للحكومة، أما شعبيته فاتضح أنها كانت مرتبطة بموقعه ذاك أكثر من ارتباطها بشخصه، والدليل التراجع في منسوبها، منذ أن أعفي من رئاسة الحكومة. ومرد ذلك إلى سببين، موضوعي ونفسي، يتعلق الأول بتواري بنكيران نفسه عن الأنظار، وخروجه من دائرة اهتمام الإعلام بصفة عامة، ومن وسائل الإعلام الرسمي بصفة خاصة التي كانت تُفتح أمامه بحكم منصبه ومسؤوليته داخل الدولة. أما النفسي فراجع إلى طبيعة الإنسان المغربي التي تترجمها المقولة المغربية المأثورة التي تقول: “الله ينصر من صبح”، أي أن نفسية المغربي تميل دائما إلى نصرة المنتصر.
كان الوضع الذي يجد بنكيران اليوم فيه نفسه متوقعا، عندما راهن على كسب ثقة السلطة قبل مصداقية الشارع، فلم ينل الأولى وفرط في كثيرٍ من الثانية. وليس مثل هذا الوضع جديداً في تاريخ المغرب، فقد سبق أن تكرر مع زعامات وقامات سياسية مغربية كبيرة، من علال الفاسي مرورا بعبد الرحيم بوعبيد وحتى عبد الرحمن اليوسفي، كلهم راهنوا على السلطة وتناسوا الشعب فانتهوا، ومعهم انتهت أحزابهم، مبعدين من السلطة، منسيين من الشعب الذي خذلهم كما خذلوه، أو اعتقد أنهم فعلوا ذلك.