رشيد لبكر: الخطاب الملكي الذي ألقاه جلالته بمناسبة عيد العرش مكثف الإشارات وغزير المضامين
الخطاب الملكي الذي ألقاه جلالته بمناسبة عيد العرش، كان مكثف الإشارات وغزير المضامين، حتي وإن بدا نصه صغير الحجم مقارنة مع خطابات العرش السابقة، والتي جري العرف بانها تكون طويلة شيئا ما، كي تتضمن جردا كاملا لما تم فعله خلال السنة الماضية وما تعتزم الدولة القيام به مستقبلا مع إبراز نقط القوة و الضعف، فإن خطاب ليلة أمس، وإن كان صغير الحجم، فإنه في المقابل جاء غزيرل بالمعطيات وعميق الإشارات، لدرجة يمكن القول معها، ان الخطاب لامس كل القضايا الجوهرية التي تعرفها بلادنا، ولكن دون الدخول في التفاصيل مكتفيا بإشارات شاملة ومعبرة علي كل شيء.
أما قراءتي، فيمكن التطرق إليها عبر ثلاثة مداخل أساسية اَو ثلاث رسائل كبرى تضمنها الخطاب، يجمعها عنوان واحد، هو جدية المغرب وتشبثه بمبادئ المسؤولية الأخلاقية والقانونية والإنسانية في السياسات التي تدبر بها كل القطاعات والملفات، سواء منها الخارجية او الداخلية، وعليه، أرى أن الخطاب الملكي تضمن ثلاث رسائل، أسوقها كالآتي :
– الرسالة الأولى، اختار العاهل المغربي توجيها للمنتظم الدولي، فحواها أن المسار الذي قطعه المغرب في سبيل إنهاء مشكل قضيته الوطنية، والذي تكلل بتزايد عدد المعترفين بمغربية الصحراء ووجاهة الطرح المغربي مجسدا في مقترح الحكم الذاتي ، هو حل مغربي صرف ومقترح سيادي، جاء بفعل العمل الدؤوب والتفكير المعمق والالتزام الاخلاقي بمبادئ الشرعية الدولية، وهو ما يرمز إلى مفهوم الجدية الذي استعمله جلالة الملك في هذا الصدد، بمعنى، أن المغرب عندما أتى بهذا المقترح، فإنما ليعبر عن نيته في إحلال السلام وتغليب منطق الحوار علي البندقية، ورغبته في العيش المشترك والبناء الجماعي، ولم يقايض وحدته الترابية بشيء آخر كما يدعي زورا بعض الخصوم، فلأن المغرب دولة جادة، ولأن المغاربة معروفون بخصال الصدق والتفاؤل والتسامح والانفتاح والاعتزاز بالهوية الوطنية الموحدة وبالتفاني في العمل، تقدموا بهذا المقترح الجاد والموضوعي والمسؤول، والذي أسفر عن ثقة الدول به، ومن تم، ترجمة هذه الثقة في توالي عدد الاعترافات بسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية، كما أن المشاريع الأخرى التي حققها المغرب، سواء في مجال الطاقة أو البنية التحية وغيره، هي نتيجة منطقية لهذه الجدية المعبر عنها في الخطاب، والتي تحولت إلى عقيدة راسخة وسلوك معتمد وبرنامج عمل ميداني يشمل مجموعة من المبادئ العلمية والقيم الإنسانية وليست مجرد شعار فارغ، هذه الجدية، هي ذاتها التي دفعت المغرب إلى تبني وجهة نظر أخرى في الدفاع عن القضية الفلسطينية، من منطلق الدفاع عن مصلحة الفلسطينيين قبل أي شيء، وليس من منطلق المزايدة على قضيتهم والركب عليها لتحقيق مكاسب أخرى بعيدا عن المصلحة الحقيقية للإخوة الفلسطينيين، الذين آن لهم أن ينعموا بالأمن والاستقرار في دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، إذن فلا مزايدة على المغرب في هذا المجال، فهو المعروف دائما وأبدا بمواقفه الثابثة حيال القضية، باعتبارها مواقف جادة ومبدئية ولا تتبدل تبعا للمصالح.
أما الرسالة الثانية التي فهمتها من الخطاب، فموجهة الي الداخل، بكل مكوناته السياسية والإدارية والقضائية والاقتصادية وحتي عموم المواطنين، فحواها أن الجدية التي أبان عليها المغرب في الخارج، وترجمت بازدياد عدد الدول الواثقة بمشروعه، يلزم أن تجد صداها في الداخل من خلال خدمة المواطن واختيار الكفاءات المؤهلة وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة، والاهتمام بما ينفع البلاد التي هي الآن في حاجة إلى صحة في المستوى وتعليم جيد وسكن كريم وشغل يضمن كرامة المواطنين وبيئة استثمارية تحفز علي العطاء والعمل، فالجدية التي اشار إليها العاهل المغربي في هذا الصدد، يجب أن تصبح منهجا متكاملا علي الصعيد الداخلي، قوامها ربط المسؤولية بالمحاسبة وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص بين الجميع، لذلك لم يتردد جلالة الملك في هذا الإطار، في إعطاء نموذج يحتذي للجدية التي يدعو إليها، ألا وهو عدم التساهل مع كل اشكال التبذير وسوء الحكامة والاستعمال الفوضوي واللامسؤول للماء، وقد اقتصر جلالته على هذا النموذج، لأنه كاف في الدلالة، بالنظر إلى الأهمية الاستراتيحية التي بات الماء يحظى بها مع توالي فترات الجفاف،وإلا فخطاب ربط المسؤولية بالمحاسبة يسري على الجميع و يمتد ليشمل كل القطاعات.. اما المضمون الثاني في هذا الرسالة، فيتعلق بمنظومة القيم والمرجعيات التي كثر فيها الحديث مؤخرا بسبب تداخل العديد من الازمات، وحتى يكون خطاب جلالته حاسما ومختصرا بالاتساق مع مبدأ الجدية الذي جعله عنوان خطاب عيد العرش، فقد حرص علي تجديد الحسم في اختيارات الأمة، القاضية بالتمسك بالقيم الدينية والوطنية والتشبت بالوحدة الترابية وصيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من اجل مجتمع متضامن ومتماسك. واعتقد ان هذا المضمون، كاف جدا لتأطير النقاش الجاري الآن ببلادنا، والذي نحا إلى اتجاهات غير قويمة، وهو المتعلق بمراجعة مدونة الأسرة وما يرافقها من خطاب حول الحريات وغيره، مما جاء التوجيه بخصوصه واصخ في خطاب صاحب الجلالة.
– أما الرسالة الثالثة فموجهة لدولة الجوار وهي الجزائر، التي جدد الدعوة إليها من جديد من أجل المصالحة، مؤكدا أمام العالم، بان المغرب، بلد التسامح والانفتاح والعمل الجاد، لم يكن يوما ما مصدر شر او سوء لها، بل كانت يده دائما ممدودة لنشر قيم المحبة والصداقة والتبادل والتواصل بين الشعبين المغربي والجزائري، واليوم يسعى – كما كان بالأمس- إلى أن تعود الأمور إلى طبيعتها وتفتح الحدود بين الجارين السقيقين، واعتقد ان هذه الدعوة كان من الطبيعي جدا ورودها في خطاب ملكي مهم عنوانه الجدية والالتزام، إذ فمن شروط الجدية، الدفاع عن حسن الجوار ورعاية المصالح المشتركة والحرص علي مستقبل أبناء البلدين، ولن يكون هناك مستقبل زاهر في ظل حالة الاحتقان والتأجيح والعنف القائمة الآن، فالمغرب لا يمد يده اليوم من باب الضعف ، ولكن من باب الجدية والحكمة والرزانة باعتبارها جزء من تقاليده الحضاربة، في عالم متغير لن يزيدنا التشردم فيه إلا مزيد من الضعف وإهدار للطاقات.
رشيد لبكر: أستاذ القانون العام بكلية الحقوق جامعة شعيب الدكالي بالجديدة