هندسة الكرامة: عبد الحي المِلاخ، النَّفَس القومي العربي في تجريدٍ ملتزم

تعليق: حسن لغداش
تتبدّى أعمال عبد الحي الملا خ بوصفها بياناً تشكيلياً تتجسّد فيه اللونُ كوعيٍ، والشكلُ كمقاومة. ففي عمق هذا التجريد النابض بالانفعال، تتخذ اللوحة بُعداً أخلاقياً وجمالياً في آنٍ، حيث تتحوّل الممارسة الفنية إلى حيّزٍ للالتزام الإنساني والذاكرة الجماعية.
إنّ الملاخ، هذه الشخصية الهادئة والحاضرة في المشهد الفني المغربي الحديث، ينسج خطابه البصري في تفاعلٍ دائم بين الهمّ الجمالي والرهان الإيديولوجي، بين الرؤية الكونية والانغراس المحلي، في سبيل تشكيل جغرافيا بصرية للكرامة والوعي.
تُهيمن على لوحاته تكوينات هندسية عضوية: بيضاويات، مثلثات، كتل نابضة، وانحناءات تتقاطع كأنها خريطة رمزية للعالم العربي المتشظي، الساعي أبداً نحو وحدته المنشودة.
تفيض اللوحة بـزرقةٍ وخضرةٍ تستحضر البحر والأرض، فيما تتقد الحمرة واللون الأُكري بمعاني الدم والنضال وحرارة المعتقد.
إنها مادية لونية كثيفة الملمس، تُترجم طاقةً حيويةً جامعة، تَجعل من التجريد عند الملاخ فعلاً نابضاً بالحياة لا هندسةً باردة؛ إنها هندسة يسكنها النفس الإنساني.
يتأسس أسلوبالملاخ على غنائية هندسية تجمع بين عفوية اللمسة ودقّة التكوين.
فهو يتعامل مع المادة التشكيلية بحسٍّ خطّيٍ يكاد يكون خطاطياً: يَكشط، يُلامس، يُنمْذِج، حتى تغدو كل ضربة فرشاة طبقةً من الذاكرة ومقاماً للمقاومة.
وتطلّ من اللوحة عيونٌ وأشكالٌ رمزيةٌ تراقب العالم وتستنطقه، في يقظةٍ بصريةٍ تُوازي يقظته الحقوقية والسياسية؛ إذ يجعل من الفن لغةً ناطقة حين يُكمَم القول العام.
تغدو اللوحة، بهذا المعنى، فضاءً للشهادة والمساءلة، حيث يتحوّل اللون إلى خطابٍ أخلاقيٍ وجماليٍ في آن.
يتكئ مشروع الملاخ على انتماءٍ مزدوج الأفق:
محلياً، ينتمي إلى تيار الحداثة التشكيلية المغربية ما بعد الاستقلال، إلى جانب روادها محمد المليحي، محمد شبعة وفريد بلكاهية، الذين سعوا إلى بلورة تجريدٍ مغربيٍ متصالحٍ مع الهوية ومنفتحٍ على العالم.
كونياً، تتردّد في أعماله أصداء كاندينسكي وكلي وريفيرا، حيث يلتقي البعد الروحي بالبعد الإنساني، دون أن يقع في محاكاةٍ شكليةٍ؛ فهو يهضم تلك المرجعيات ليصوغ منها لغةً بصريةً مستقلّة، مطبوعةً بضياء الأطلسي ونَفَس الصحراء وذاكرة العروبة.
في تجربة الملاخ، لا تُمارَس اللوحة بوصفها زينةً للعين، بل سؤالاً للوجود.
إنها أخلاقيةٌ في جوهرها، تجعل من الإبداع موقفاً من الإنسان ومن العالم.
في مغربٍ يتبدّل اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، ينهض الفن لديه كـفضاءٍ للتأمل والمصالحة والكرامة، وكجسرٍ بين الذاكرة الجماعية والوعي المعاصر.
ومن منطلق قناعاته القومية العربية، يجعل الملا خ من اللوحة مجالاً للوحدة والاعتراف، حيث تستعيد الإنسانية هندستها المفقودة.
هكذا يغدو الفنان فاعلَ ثقافةٍ ومربّي حسٍّ، يعمل على تأصيل العمل الجماعي وتوريث الحس الجمالي للأجيال الصاعدة.
ينتمي عبد الحي الملاخ إلى سلالة المبدعين الذين جعلوا من الفن امتداداً للوعي ومسؤولية للذاكرة.
تتجلّى فرادته في قدرته على وصل اللغة التشكيلية بالخطاب الأخلاقي، والرؤية الجمالية بالوعي التاريخي.
وفي مشهدٍ فنيٍ متقلّبٍ، يظلّ ملاخ أحد الأصوات التي تدافع عن فكرة الاستمرار، وعن الكرامة كقيمةٍ بصرية وإنسانية.
إنّ أعماله، بما تحمله من رموزٍ وأنفاسٍ ضوئية، تنسج سجادة إنسانية تتوحّد فيها الألوان بالمعنى، والشكـلُ بالأمل.