هكذا نعى بيت الشعر في المغرب الناقد الكبير الدكتور محمد مفتاح
ببالغ الحُزن والأسى، تلقّى بين الشعر في المغرب، وفاة الناقد محمد مفتاح؛ عضو بيت الشعر في المغرب.
لقد فقدَ المشهد الثقافيّ العربيّ والمغربيّ، بموت الناقد محمد مفتاح، واحدًا من مُنظّري الدرس الأدبيّ الذين نذروا حياتَهم للبحث العلميّ، وللأسئلة النظريّة في حقل الشعريّات، برُؤيةٍ مُواكِبة للزّمن المعرفيّ العالميّ ولجديدِ العلوم الإنسانيّة والعلوم المعرفيّة، وبانفتاح خصيب على المرجعيّة الأنغلوساكسونيّة.
اِقترن اسمُ الفقيد محمد مفتاح، في المشهد الثقافي العربيّ، بالإرساء الأوّل للدرس السيميائيّ. كان كتابهُ “في سيمياء الشعر القديم”، مطلعَ ثمانينيّات القرن الماضي، من الدراسات الأولى التي تجاوَبَت مع مَكاسب الدّرس السيميائيّ في الغرب، كاشفةً عن وُعود هذا الدرس في تجديد الرّؤية إلى النصّ الأدبيّ، وضِمنه إلى النص الشعريّ القديم، الذي شكّل مَتن الكتاب الأوّل. ذلك ما واصلَ محمد مفتاح، مُنتصف الثمانينيّات، تعميقَه في كتابه الثاني “تحليل الخطاب الشعريّ، استراتيجية التناص”، قبْل أن تنحوَ دراساتُه لاحقًا منحىً تنظيريًّا، كما تبدّى من مساره البَحثيّ، ومن تصريحه في الحوار الذي أجرَتهُ معهُ مجلّة “البيت”، في عددها المزدوج 25 و26 خريف 2014، وفيه قدّمَ محمد مفتاح تأويلًا ذاتيًّا لمساره، اعتمادًا على تحقيب رُباعيّ.
بَعد الكتابيْن النقديّيْن المُشار إليهما، نزعَ محمد مفتاح نحو التنظير، انطلاقًا من انشغاله بتحديد أسُس نظريّة شموليّة تُضيءُ اشتغال الإنتاج الثقافيّ واشتغال النصّ الشعريّ ضمْنه. في هذا التحديد، ظلّ محمد مفتاح وفيًّا للسيميائيّات، ولكن بالعمل دومًا على تَوسيعها وَفق قابليّتها لاستيعاب علوم عديدة، لأنّ محمد مفتاح نظرَ إلى السيميائيات بوَصفها منهجيّة مُركّبة، بما هيّأ له استثمارَ بُعدها المُركّب لإدماج مكاسب العلوم المعرفيّة، وعلم الموسيقى، وعلم الحركة. لعلّ هذا الوفاء للسيميائيّات، بناءً على رهان التوسيع، هو ما تجسّدَ في كتابه الموسوعيّ بأجزائه الثلاثة “مفاهيم مُوسّعة لنظريّة شعريّة”، الذي فيه اضطلعَ محمد مفتاح بعَملٍ تنظيريّ لافت.
في هذا المسار الثقافيّ الخصيب، حرصَ محمد مفتاح، بصرامة علميّة وخِبرة أكاديميّة، على عدم التنازُل عن نَسَب كُتُبه إلى الزّمن المعرفيّ، انطلاقًا من إنصات دقيق لما يَجري عالميًّا في حقل نظريّات الأدب، وفي العلوم الإنسانيّة، والعلوم المعرفيّة. كما حرصَ، في تفاعُل تبصّريّ مع مساره الشخصيّ، على توسيع المفهومات التي بها توسّلَ في التفسير وفي البناء النظريّ، على نحو ما أنجزهُ، تمثيلًا لا حصرًا، في كتابه “مشكاة المفاهيم”، الذي فيه هيّأ العُبورَ من مفهوم التناصّ إلى مفهوم المُثاقفة، ضِمن ما سّماه “النقد المعرفيّ”.
فضلًا عمّا تقدّم، اتّخذ محمد مفتاح، في مُعظم كتُبه، الشعرَ مَتنًا لدراساته أو لاختبار المناطق النظريّة التي لم يكُف عن التوغّل فيها اعتمادًا على نُزوع منهجيّ بيِّن، بغاية صَوغ القوانين العُليا التي يُمكنُ أن تُفسِّر اشتغالَ النصّ الشعريّ وتستجلي طرائق تَشَكُّله. وقد نال الشعرُ المغربيّ المُعاصر، داخل المَتن الذي شكّل مادّةَ كتُب محمد مفتاح، حيّزًا وفيرًا، بما كشفَ عن مُتابعةِ الفقيد للمَشهد الشعريّ المغربيّ المُعاصر، وعن حرصه على إدماج جانبٍ من هذا المشهد في بناءِ الصرح النظريّ الذي كانت مؤلّفات مُحمد مفتاح تحلمُ بتشييده.
إنّ بيت الشعر في المغرب إذ ينعي محمد مفتاح، الذي كان عضوًا في البَيت، يَعي فداحة الفراغ الذي تركهُ الفقيد في المنطقة المعرفيّة التي نذرَ حياتَه له، كما يعي البيت أنّ الشعاب التي فتحَها، هذا العالِم بتواضع إنسانيّ رفيع، في الدرس الجامعيّ وفي التنظير الأدبيّ تدعو إلى استئناف وُعوده الآتية من المُستقبل، وذلك بمُواصلة الحُلم الذي بثّ الفقيدُ ظلالَه في كتُبه؛ الحُلم بإرساء دِعاماتِ صَرح عِلميّ لدراسة الأدب.