نساء وأكثر..
لا شك أن أي مهتم بقضايا المجتمع المغربي، وبالواقع المتناقض الذي يعيشه، المتناقض في شتى مجالاته، لَيلحظ أن هناك فوارق كبيرة البَوْنِ في ما يتعلق بمسألة الرجل والمرأة، فوارق في الحقوق والواجبات، وبما أن غالب الذين، واللواتي، ينصبون أنفسهم حماة المرأة وأنصارها، لا تتجاوز طول أفكارهم/ن وعمقها، “صايتي حريتي” والمناصفة في الإرث وحق الإجهاض والأمهات العازبات…” ويقصون عن عمد أو بدونه، المرأة البدوية، فإني أحببت أن أشير إلى هذه الفئة، فئة من المجتمع المغربي، هن أكثر من كونهن إناثا، أكثر من كونهن نساء، وقد تتساءلون، عمَّ أتحدث تحديدا؟
إني أتحدث عن نساء، منذ ولادتهن التي لم تكن بشارة خير لآبائهن، بل نذير شؤم ولَّد خوفا أقرب إلى الفوبيا، من بكارة قد تزال، وبطن قد ينتفخ وعار قد يكتب على جبين الأسرة أبد الدهر..
الآباء الذين مازالوا يعتبرون أن ولادة الأنثى تدخل في الإيمان بالقدر، خيره وشره، وبالضبط في “شرية القدر”، وذاك ما يجعلهم يتقبلونها ولو على مضض، ويفكرون منذ لحظة ولادتها في لحظة زواجها، يفكرون في لحظة زفِّها إلى زوج ما، -زوج ارتضاه الأب، وهذا يكفي- مصحوبة بأهازيج نساء تعكس هذا الخوف المرضي “فرحي ألالاَّ وسعْدي ألالا، زوجتْ بنيتي وحيْدْتْ اللُّوما عليّا..”
أتحدث عن نساء، لا يعرفن الراحة أبدا، منذ الصغر، وكلما كبرن، إلا وكبرت قائمة التكاليف والأشغال..
إن الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها في الباب طويلة وكثيرة، لكني أورد هنا نموذج نساء سهل الغرب، ذاك السهل الذي لا يوفر حياة سهلة للمرأة، أجل، فالمرأة في هذه المنطقة الغنية بمواردها الطبيعية، الفقيرة بمرافقها العمومية، تعمل فيها النساء الدور الأبرز في جل الأعمال التي تتطلبها الحياة، بل إن المرأة هنا، في علاقتها بالرجل -إن جاز لنا التشبيه بعالم الغاب- مثل علاقة اللبؤة بالأسد، طبعا هذا التشبيه لو سمعه البدوي، سيطرب له، فما أكثر ما شبه العربي البدوي الأول بالأسد، الفرق بين العربي السلف، والبدوي الخلف، هو أن وجه الشبه عند الأول كان هو الشجاعة والإقدام والقوة…، أما وجه الشبه، عند الخلف، عند رجل اليوم –دون تعميم طبعا- فهو التواكل، حيث أن اللبؤة هي أكثر من يقوم بعملية الصيد في الغاب، والمرأة في بادية الغرب، وغيرها من مناطق المغرب، هي من تصطاد أكثر، لُقمة العيش، هي التي تكنس وتحلب وتستيقظ قبل دجاجاتها البئيسة، بل وتخرج للعمل في حقول الطماطم والبطاطس وجني ثمار الكاكاو وثوت الأرض، “الفريز” وغيرها، ولو تعلمون كم تتطلب هذه الأعمال من مجهود عضلي كبير، فترى المرأة، الشابة، وغير الشابة، تحمل صناديق فوق صناديق ثقيلة، تحت سوط شمس الصيف، وسوط “الكابران” المتحرش بأجملهن، واللاعن لغيرها..
لو حدث ورأيت يد القروية، لرأيت يدا خالية من كل أنوثة، يد لم تفلح الحنّاء في طمس أثر حمل المعاول والدِلاء والصناديق الثقيلة، يد من خشونتها تحسبها يد رجل يسكن ورشة عمل للبناء، وفوق هذا، حين تعود للبيت، فهي مطالبة بتربية الأبناء وتلبية حاجياتهم التي تنتهي، وبإعداد الأكل في المطبخ، وفوق ذاك، مطالبة بإعداد “أكل” آخر في غرفة النوم..
ربما يظن البعض أنني أبالغ وأبخس دور الرجل، لكن ليس من رأى كمن سمع، وأنا رأيت وسمعت وعاينتُ، لذلك فإني أستطيع أن أقول، إن النساء البدويات، هن أكثر من نساء، وأقرب إلى “الربوهات”
نساء يحرمن من حق التمدرس في سن مبكرة، ويُسَقْنَ إلى أزواج حتى وإن لم يقبلن بهم، في سن مبكرة، ويُحشرن في أعمال تتناسل كل يوم وتتمطط، وبأثمنة بخسة، وكأنهن عمال عند ملك فرعوني قرر بناء الأهرامات على سواعد العبيد..
هذه نماذج من منطقة سهل الغرب، أما إذا سافرنا صوب الأطلسين، الصغير والكبير، أو إلى جبال وزان والشاون.. فهناك معاناة تعلو وترتفع، كلما علت الجبال وارتفعت، رعي وجمع للحطب وجني للزيتون، وحش للقنب الهندي”الكيف” والسفر من أجل جلب الماء من عيون يستغرق الذهاب إليها والإياب منها الساعات الطوال..
هذا واقع المرأة في بوادي مجتمع لازال يلعن المرأة منذ الولادة ويردف حين يذكرها ” هاديك الولية حاشاك” أو المرأة ضلع أعوج، وأن المرأة أكثر مكرا من الشيطان، وأن كل البلايا والشرور التي تُفرق بين الرجل وربه، بين الرجل وأهله، هي نابعة من “حْدِيتْ لْوسادة” .
واقع يجعلها الحلقة الأضعف، رغم كل التضحيات والمجهودات المبذولة، مجهودات نفسية وجسدية وعاطفية، أما واقعها في المدينة، المدينة الوحش، فيتخذ أشكالا وألوانا أخرى من الاضطهاد والاستغلال، لا يسعنا في هذا المقال ذكرها.
بقلم الأستاذ والباحث: عبد الجليل الشافعي