لعنة المعرفة..
بقلم الأستاذ: عبد الجليل الشافعي
الأصل في الأشياء، كل الأشياء، أن لها جانبا سيئا، حتى القمر الذي تغنى به الشعراء في قصائدهم، والعاشقون الساهرون في رسائلهم، واهتدى به الرحل في أسفارهم الطويلة وهم يجوبون صحاري مقفرة وغابات موحشة، له وجه مظلم، هذا منطق الأشياء في، وعلى، هذا الوجود الذي نسميه، الحياة، منطق وضعه الله وسنَّه قبل أن نَنْبُتَ من الأرض كبذور قمح على أرض سودانية فاضت عليها مياه النيل دون أن تحتاج إلى “حسناء” كرشوة مقدمة للآلهة..
وهناك من يرى أنها الصدفة التي تلعب لعبتها الزِّئبقية مع البشر، وكل ما يوجد في بطن هذا الكون الفسيح..
إن هذا المسطرة الكونية التي لا تحيد والتي توجد في كل ما يحيط بنا، لها مضاعفات مقبولة أحيانا، كمضاعفات الدواء، أو المبالغة في أكل نوع معين من الغذاءبل حتى الأشياء الطيبة لها مضاعفات.. لكن تبقى مقبولة وعلاجها سهل، أما مضاعفات المعرفية الجانبية، فتعد من أسوأ المضاعفات التي قد تصيب الانسان، خاصة في بلدان يكتسحها الجهل كما يكتسح الجراد البساتين الخضراء، مضاعفات المعرفة تجعلك غريبا في وطنك، فتجد نفسك جالسا مع أهلك تشاهد برامج أو أفلام “وطنية” فتراهم يضحكون، وربما يحزنون، وأنت لا تحرك ساكنا، لا تتفاعل وكأنك حفار قبور، لا حزنا ولا فرحا، وتتساءل: ما الذي يضحك هؤلاء؟
المعرفة، تجعلك تشكك في قول خطيب الجمعة الذي يستدل بأحاديث معينة، فتطفو على ذهنك بشكل ارادي وآخر لا، أحاديث مذاهب أخرى تعاكس ما تفضل به الإمام المبجل في يقينية مطلقة.. المعرفة تدفعك لأن تنتقد -وأحيانا تتفادى أن تنتقد- أستاذك الذي يصر على أن تمر الدروس التي يلقيها على مستودع ايديولوجيته، أو انتماءاته، التي لم يستطع أن يتخلص منها وكأنه في اجتماع حزبي، لا في حرم جامعي، المعرفة تجعلك غريبا في مدينتك، التي تتحول بصورة مجنونة، تتحول سلبيا في المجمل، المعرفة هي من تدخلك في خانة الشك و”التقويض” الدائمين، فلا تصفق يوما لخطاب رئيس أو حاكم أو ملك عربي، لأنك تدرك أنهم يبيعون الوهم لمجتمع “مجهل”.. المعرفة تجعلك تتجاوز الثلاثين من عمرك، بدون أن تحب، لأن النساء في معظمهن مشغولات بتطوير الحواجب والأرداف والنهود، ولا يطورن عقولهن ولا أفكارهن،لأنهن، جلهن، يصررن على أن يحملن في حقابهن مرايا بأحجام مختلفة وأحمر شفاه وأقلام عيون.. ولا يفكرن، إلا لماما، في حمل الكتب..
فتجد نفسك بتاريخ حافل بالعلاقات، خاوٍ من الحب، فتلعن العالم ونفسك..
لعنة المعرفة، تلاحق أي شخص آمن بالحرف والكلمة والكتاب، في مجتمعات همها الجنس والأكل.. تطاردك اللعنة وكأنك “سيزيف” عصرك، وتؤرق حياتك، وتَقُضُّ مضجع وجودك.. لعنة المعرفة تجعلك طريدا بدون جرم، وتائها بلا شراع أو بوصلة.. فتختار الانزواء عن عالم لم يعد يشبهك، ولا يمثلك حكامه ولا إعلامه ولا من يدعون أنهم يملكون مفاتيح الجنة.. أو أنهم خلفاء “مخصوصون” لله في الأرض..
لعنة المعرفة، هي أسوأ اللعنات التي يمكن أن تصيب المرءَ، وهي أكثر المضاعفات الجانبية التي تحدث نتيجة لطبيعة الأشياء، الأشياء التي تضم جانبا سيئا مطمورا بجانب الأشياء الإيجابية، وغير العارف يعيش راحة وايمانا وجهلا ممتعا، خالٍ من أي أرق أو سؤال أو تشكيك، ولعل ذلك ما أحسه المتنبي حين أنشد قبل قرون عدة قائلا:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله /// وأخ الجهالة في الشقاء ينعم