شبهات حول الشيعة 5
حول إمامة أهل البيت (ع)
من هم أهل البيت؟
تتصدر حقيقة أهل بيت الرسول (ص) وحقيقة مرتبتهم ومكانتهم في الأمة موقعا متقدما في الخلافات العالقة بين السنة والشيعة إلى يومنا هذا. ففي الوقت الذي يقصد أهل السنة بأهل بيت الرسول (ص) كل أهله من عصبته الذين دخلوا الإسلام ونسائه، يقتصر الشيعة على الخمسة الذين ذكرتهم آية التطهير التي وردت في معرض الحديث عن نساء النبي (ص). يقول تعالى: ” يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا(33) )”[1].
وإذا كان الإحتجاج السني يستند على ابتداء الخطاب الإلاهي بذكر نساء النبي (ص) في الآية، فإن الرد الشيعي يستند إلى عدد من الأدلة التي تشكك في هذا الطرح.
أولها تغيير الضمير من نون النسوة عندما كان الخطاب موجها إلى نساء الرسول (ص) إلى ضمير الجمع المذكر (ليطهركم) عندما تحول الخطاب عنهن إلى أهل البيت (ع) بالمفهوم الإصطلاحي الذي يشير إلى عصبة الدم[2]، ولمثل هذا الأسلوب نماذج في القرآن الكريم، كما جاء في سورة يوسف[3]، يقول سبحانه وتعالى حاكيا عن العزيز إنه لما واجه الواقعة في بيته قال لزوجه: (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) وقبل أن يفرغ من كلامه معها خاطب يوسف بقوله: (يوسف أعرض عن هذا) ليخاطب زوجه مجددا بقوله: (واستغفري لذنبك)، فقوله: (يوسف أعرض عن هذا) جملة معترضة، وقعت بين خطابين، والمسوغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني (يوسف) هو أحد المتخاصمين وكانت له صلة تامة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز[4]، وفي آية التطهير يكون النبي (ص) هو الرابط الذي تنتهي إليه الطائفتين؛ نساؤه من جهة وأهل بيته الذين وردت أسماؤهم في حديث الكساء كما سيأتي بيانه من جهة أخرى.
وثانيها، حديث الكساء كما جاء في صحيح مسلم[5] بالإسناد إلى صفية بنت شيبة، حيث قالت: خرج النبي (ص) غداة و عليه مِرْط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال : ﴿ .. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾
وثالثها، ما وقع من أحداث تاريخية تناقض معنى التطهير الوارد في الآية إذا أضيف نساء النبي (ص) إلى آل البيت (ع)، كالمواجهة العسكرية التي وقعت بين جيش الإمام علي (ع) وزوج النبي (ص) عائشة في معركة الجمل مما لا ينبغي أن يقع بين أهل بيت الرسول (ص) بمنطق آية التطهير التي تفيد بعصمتهم من الوقوع في مثل هاته المزالق الخطيرة، خاصة وأن عائشة (رض) مأمورة في نفس الآية كباقي نساء النبي (ص) بلزوم بيتها، والرسول (ص) قد حذرها من الخروج في هاته الحرب[6]، كما تنبأ بقتال علي لكل من خرج عليه وفرق كلمة المسلمين[7]. وكل العلماء قديما وحديثا يقرون بأن الإمام علي (ع) كان على الحق، وبأن خصومه مخطئون.
هكذا يقدم الشيعة أصحاب الكساء الذين عنتهم آية التطهير[8] على كل الصحابة، ويتمسكون بولايتهم[9] التي لا تعني فقط محبتهم ومودتهم[10] بقدر ما تعني الإقتداء بسيرتهم واتباع نهجهم ومذهبهم في الفقه[11].
من المودة إلى الولاية:
يحتل مفهوم الإمامة مكانة مركزية عند الشيعة إذ يعتبر من أصول عقائد المذهب التالية للنبوة، فيقول متكلموهم بأن رسالة محمد (ص) لم تكتمل إلا بتولية الإمام علي بن أبي طالب (ع) في واقعة الغدير[12]، الذي يتخذونه عيدا لهم. وهو بعد حدث لم ينكر وقوعه أحد من علماء السنة بمن فيهم مشايخ السلفية كابن تيمية، وقد أخرجه الإمام الحاكم في مستدركه على شرط الشيخين، إلا أن الاختلاف بين الطرفين وقع في تأويل الواقعة..
وقد سبقت الواقعة عدد من التحضيرات الإلاهية كآية الولاية، في قوله تعالى: “إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون”[13]، وآية البلاغ: “ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين”[14]وأحاديث كثيرة رويت في فضل علي كحديث المنزلة؛ “أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي”[15]، حديث؛ “علي مني وأنا منه”[16]، وقول الرسول (ص) يوم خيبر له؛ “لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما كان الغد دعا عليا فدفعها إليه[17]. وقوله (ص) “أنا مدينة العلم وعلي بابها”.[18]
ويتوسع فقهاء الشيعة في إثبات مرتبة الإمامة التي يختص بها أهل بيت الرسول (ص) من خلال آية أخرى وردت في معرض الحوار بين الله تعالى ونبيه إبراهيم(ع)، إذ يقول تعالى: “وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين”[19] فإبراهيم كان نبيا ومن أولي العزم، وقد زاده الله بعد أن امتحنه تشريفا آخر جاء أيضا عن طريق الاختيار و الإصطفاء، ولما طلب إبراهيم (ع) من ربه أن يختار ذريته للإمامة أجابه الله بأن من ذريته أمة ظالمة (وهم حسب المفسرين بنو إسرائيل من فرع إسحاق لأنهم حرفوا دينهم وقتلوا أنبياءهم كما جاء في القرآن الكريم)، ولما كان أيضا من ذريته بنو هاشم من آباء الرسول (ص) والإمام علي (ع) وذريته من فرع إسماعيل(ع) فإن الله قد اختار منهم الأئمة أيضا تثمينا لقانون الإصطفاء، يقول تعالى: ” وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ”[20]. ويقول تعالى في محكم التنزيل: “وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ”[21].
وهكذا تتبوأ الإمامة لدى الشيعة مكانة رفيعة لا تفوقها إلا النبوة، حيث ترقى بمنزلتها إلى أصول الدين[22]. في الوقت الذي يعتبرها عدد من علماء السنة مجرد فرع من فروع الدين، وقد يتصدى لها البر والفاجر[23].
وبعد كل هذه الأدلة من الكتاب والسنة تسقط كل الافتراءات المغرضة التي تنسب إلى ابن سبأ القول بوصية علي، وقد سبق الحديث عن هذا الرجل اليهودي الأسطورة والذي ظهر زيف شخصيته للكثير من المحققين من الشيعة والسنة القدامى منهم والمحدثين.
حول لوازم الإمامة:
وينبثق من عظم هاته المكانة وخطرها وجوب عصمة الإمام، وبنفس أدلة الإحتجاج على عصمة النبي لأنهما يتبوءان كليهما موقع المرجعية والإقتداء، فضلا عن اختيارهما الإلاهي من أجل تبليغ وتفسير الرسالة، مما يتطلب أن توافق أقوالهما وأفعالهما وتقريراتهما روح الشريعة ولا تناقض كلام المولى عز وجل. يقول الشيخ المفيد: “العصمة لطف يفعله الله بالمكلف حيث يمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليه”[24].
أما ما يروجه بعض خصوم الشيعة عن إضفاء صفة الاُلوهية على أئمتهم وإن حصل ذلك من بعض غلاتهم وفي مراحل زمنية متفرقة كمن ألهوا عليا أو بعض ولده من أئمة أهل البيت (ع) كالإمام جعفر الصادق (ع)، أو بعض المدعين الذين ذكرتهم المصادر المختصة بالملل والنحل[25]. أو صفة النبوة كالغرابية الذين يعتقدون بنبوة الإمام علي(ع)، وأن الوحي قد أخطأ ونزل على النبي محمد(ص)؟؟ فإن ذلك مما لا يعتد به بين علماء المذهب، وقد حارب أئمة أهل البيت (ع) الغلاة وفضحوهم، وكذلك فعل شيعتهم المخلصين عبر التاريخ، ومصادر الفقه الإمامي منذ تكوّنه وحتى الآن قد اتفقت كلمتها على كفر الغُلاة والمفوضة، وقد صرّح بذلك الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد[26]، والشهيدان في اللمعة الدمشقية وشرحها[27]، والسيد اليزدي في العروة الوثقى[28]، ونقل السيد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى الإجماع على ذلك، ثم أردف قائلاً: “وكذا الحال لو أريد من الغُلو تجاوز الحد في صفات الأنبياء والأئمة مثل اعتقاد أنّهم خالقون، أو رازقون، أو لا يغفلون، أو لا يشغلهم شأن عن شأن، أو نحو ذلك من الصفات”[29].
أما ما يستلزم مقام الإمامة من العلم الخاص أو اللدني كما يقول الصوفية[30]، وهو مما وقع فيه الخلاف بين الفقهاء فأنكره فريق من أهل الظاهر، وأجازه آخرون يتقدمهم الصوفية والشيعة، ودليلهم في ذلك أن الإمام يجب أن يكون عالما بما يحتاج إليه الناس في أمور معاشهم ومعادهم، ومتقدما على غيره في الكمالات الإنسانية، لأنه في موقع الإقتداء والتبليغ، وذلك تكليف كبير ومسؤولية جسيمة أكبر من التشريف الذي يوافقه. يقول تعالى: “وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم”[31]. وقد كشف التاريخ الكثير من المدلسين الذين ادعوا الإمامة أو المهدوية ففضحتهم بعض أقوالهم وأفعالهم المناقضة لروح الإمامة والرسالة.
أما علم الغيب الذي ينسبه بعض الشيعة لأئمتهم فذلك من الإلتباس الذي وجب رده إلى محكم التنزيل للفصل فيه. حيث يقول تعالى: ” عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدً* إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا“[32]، وتشير الآية إلى أن الله قادر على أن يطلع من عباده من ارتضى من رسله وأوليائه على علم الغيب، ليؤيدهم به على الحق. يقول تعالى على لسان نبيه يوسف(ع): “لا يأتيكما طعام ترزقانه إلاّ نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما”[33]، فهل نبي الله يوسف (ع) يعلم الغيب من ذاته؟ أم أن الله تعالى من يطلعه؟ وإذا كان هناك من يرى اقتصار هذا الأمر على الأنبياء فقط، فنحن نسأله، ألا يستطيع الله تعالى أن يطلع على غيبه أحدا غير الأنبياء؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد وسعت قدرته كل شيء..
يقول الإمام الشوكاني: “إنّ المكاشفات أمرٌ ممكن الوقوع لا يجوز لأحد انكاره، ومن الأمثلة على ذلك الصحابي حذيفة بن اليمان ومعرفته بالمنافقين. لذا نقول: ليس لمنكر أن ينكر على أولياء الله ما يقع منهم من المكاشفات الصادقة الموافقة للواقع، ففي ذلك حديث النبي(ص): “اتّقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله” ولكن لابد من عرض المكاشفات على الشرع للتثبت منها[34].
وهكذا فلا تعارض بين الآيات التي تحصر علم الغيب به تعالى وتنفيه عن غيره والآيات التي تثبته لغيره، فإذا كانت الأولى تثبته على نحو الأصالة، فإن الثانية تثبته على نحو التبعية بحسب ما تقتضيه إرادة الخالق عز وجل.
حول أئمة الشيعة:
بقي انفراد الشيعة الإمامية بعدد وأسماء أئمتهم الإثني عشر على التتابع الذي ينكره خصومهم، فيطعنون بذلك في كل المذهب ولا يأخذون عن أئمة الشيعة الذين هم أنفسهم أئمة أهل البيت (ع) إلا النزر اليسير ممن وافق رأي بعض من عاصرهم من أئمة المذاهب الأخرى في تحفظ بالغ وكأنهم يأخذون من دين آخر غير دين الإسلام.
أما بخصوص العدد، فقد روى مسلم عن جابر بن سمرة أنه سمع النبي(ص) يقول: “لايزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش”
وفي رواية تكلّم النبي(ص) بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله(ص)؟ فقال: “كلّهم من قريش”[35]، وفي رواية أخرى قال: “كلّهم من بني هاشم”[36]
وقد احتار علماء السنة جميعا في بيان المقصود من الإثني عشر في الروايات المذكورة وتضاربت أقوالهم.
فهذا ابن العربي يقول في شرح سنن الترمذي: فعددنا بعد رسول الله(ص) اثني عشر أميراً فوجدنا أبا بكر، عمر، عثمان، عليّاً، الحسن، معاوية، يزيد، معاوية بن يزيد، مروان بن الحكم، عبد الملك بن مروان، الوليد، سليمان، عمر ابن عبد العزيز، يزيد بن عبد الملك، مروان بن محمد بن مروان، السفاح..ثمّ عدّ بعده سبعاً وعشرين خليفة من العباسيّين إلى عصره، ثمّ قال: وإذا عددنا منهم اثني عشر، انتهى العدد بالصورة إلى سليمان، وإذا عددناهم بالمعنى كان معنا منهم خمسة، الخلفاء الأربعة وعمر ابن عبد العزيز ولم أعلم للحديث معنى[37].
ويقول الإمام السيوطي: وقد وجد من الإثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضمّ إليهم المهديّ العباسي، لأنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في الأمويّين، والطاهر العباسي أيضاً لما أُوتيه من العدل ويبقى الاثنان المنتظران أحدهما المهدي لأنّه من أهل البيت[38]، وقيل: المراد أن يكون الإثنا عشر في مدّة عزّة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره، ممّن يعزّ الإسلام في زمنه، ويجتمع المسلمون عليه[39].
في المقابل نجد أن بيان هذا الحديث ينطبق تماما على عدد أئمة المسلمين الشيعة، وخصوصا منهم الإمامية. أما ذكر أسماءهم، ولو أن بعض الشيعة كان يتكلف ليأتي بنصوص تذكر أسماء الأئمة على لسان الرسول(ص)[40]، إلا أن الغالب في رأيهم هو الإعتقاد بأن كل إمام كان ينص على الإمام الذي يأتي بعده[41].
هكذا يتبين بأن الشيعة لا يأتون بشيء خارج الدليل مما ورد في الكتاب والسنن، أوم يخالف العقل وينسجم والذوق السليم. أما من غلا منهم في شيء أو تطرف في بعض الأحكام والمواقف، فهم يضربون بكلامه عرض الحائط دون تحفظ من مقام صاحبه مهما بلغت مرتبته. فلا شيء يعلو على صوت الحق، وإلا تغلب رأي الرجال وضاعت الحقيقة. وهذا ما وقع بالفعل في الكثير من المذاهب التي غلبت آراء فقهاءها تعصبا رغم وجود الدليل خارج حدود اجتهاداتهم ومذهبهم فكان ذلك مصدر وهن لها.
وهكذا تسقط معظم التهم والافتراءات التي تطعن في مذهب الشيعة الذي هو نفسه مذهب أهل البيت (ع)، ولا يصدق منها إلا ما خالف به بعض الشيعة أنفسهم مذهبهم فشدوا بمواقف أو اجتهادات تخالف ما تعارف عليه أئمة أهل البيت (ع) وفقهاء ومراجع المذهب المعتبرين. وهو ما قد نجده في كل المذاهب والملل، مما يجب رده بالحجة والبرهان وبمنطق ينأى عن التعصب والطائفية مما يواجه أحيانا باللعن والسب والقذف عند بعض ضعاف النفوس. ولأن الغاية واحدة، ولو أن طريقها صعب مستصعب. يقول تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”[42] صدق الله العظيم.
مسألة الإمام المهدي:
وتبقى مسألة الإمام المهدي من الإشكاليات العالقة بين السنة والشيعة، بالرغم من وجود نصوص نبوية عند الطرفين تؤكد خروجه في آخر الزمان من ذرية الرسول (ص) ليقيم موازين العدل في الأرض بعد اختلالها، وبأن نبي الله عيسى (ع) سوف يصلي وراءه.
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله(ص): “لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً”، قال: “ثم يخرج رجلٌ من عترتي أو من أهل بيتي يَمْلؤُها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدوانا”.[43]
ويقول ابن حجر الهيثمي في صواعقه[44]: “قال أبو الحسين الآبري: قد تواترت الأخبار، واستفاضت بكثرة رواتها، عن المصطفى(ص) بخروجه، أي المهديّ وأنّه من أهل بيته، وأنّه يملأ الأرض عدلاً، وأنّه يخرج مع عيسى على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فيساعده على قتل الدجّال بباب لد بأرض فلسطين، وأنّه يؤمّ هذه الاُمّة، ويصلّي عيسى خلفه”
إلا أن الشيعة يتحدثون عن ولادته خلال العصر العباسي، وبأن أباه هو الإمام الحسن العسكري، أي الإمام الحادي عشر للشيعة الإمامية من جارية رومية إسمها نرجس، وبأنه قد عاش مدة بين أصحاب أبيه سميت بالغيبة الصغرى، وقاربت حوالي 70 سنة قبل أن يختفي عن الأنظار ويدخل غيبته الكبرى التي تمتد إلى آخر الساعة. وهم يحتجون عادة لمعجزة الإمام المهدي (عج[45]) بقصة أهل الكهف القرآن الذين أماتهم حوالي 300 عام ثم بعثهم أحياء بعد ذلك إلى قوم غير قومهم الذين فروا من بينهم بدينهم.
والعجيب أن عددا من علماء أهل السنة يوافقونهم على هذا الرأي. نذكر من بينهم ابن الأثير الجزري عز الدين (ت / 630 هـ ) قال في كتابه (الكامل في التاريخ) في حوادث سنة (260 هـ ): “وفيها توفي أبو محمد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمة الإثني عشر على مذهب الإمامية، وهو والد محمد الذي يعتقدونه المنتظر”[46].
ومنهم ابن خلكان المتوفى سنة (681 هـ ) قال في وفيات الأعيان: “أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور قبله، ثاني عشر الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية المعروف بالحجة… كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين”[47].
ومنهم الإمام الذهبي، إذ يقول في سير أعلام النبلاء: “المنتظر الشريف أبو القاسم محمد ابن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن زيد العابدين بن علي بن الحسين الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب، العلوي، الحسيني خاتمة الإثني عشر سيّداً”[48].
أما عن تلكم الأحاديث الطائفية التي تدعي تفرق مهدي الشيعة ومهدي السنة، فتنسب إلى الأول قرآنا غير الذي بين أيدينا، أو تصوره على أنه يعود لينتقم من أهل السنة على مخالفتهم لأهل البيت (ع)، إلى غير ذلك من الترهات، فهي تنتمي إلى طائفة الموضوعات من الأحاديث التي سربها بعض الغلاة والمتطرفين في التراث الشيعي، والتي لا تصمد أمام التحقيق الرصين، وقد ضعفها علماء الحديث عند الشيعة[49]. ومع ذلك ما زال يحتج بها بعض المتطرفين من أهل السنة، جريا على سنة الطائفية المقيتة التي لا تسعى إلا إلى التفرقة بين المسلمين وبث الخلافات والنزاعات بينهم بكل السبل الواهية.
وهكذا يتبدى للمنصف بأن الكثير من الخلافات العالقة بين الشيعة والسنة، يمكن مناقشتها بهدوء وعلى ضوء الدليل من الكتاب والسنة، وما فضل الله به الإنسان من ميزة العقل. فلا تلبث أن تسقط كل تلك الكليشيهات والأحكام الجاهزة التي يتبناها للأسف الكثير من العوام وبعض العلماء أيضا ممن التبس عليهم الحق بالباطل، أو عرفوا الحقيقة فأنكروها خدمة لمصالح ضيقة أو أجندات مشبوهة.
وهكذا فلن نمني أنفسنا بوحدة المسلمين أو عودتهم إلى ركب الحضارة والتقدم كما كان أسلافهم، إذا لم يحسم هذا الخلاف بهدوء وروية، وإذا لم يتصدر العلماء من الطائفتين لمناقشة ودراسة هاته الإشكالات العالقة بعيدا عن التعصب والطائفية، والمواقف المبيتة.
وفي الختام، نتضرع إلى العلي القدير أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يحفظ أوطانهم من وباء الطائفية والتطرف، ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم على الحق. إنه سميع مجيب..آمين.
[1] سورة الأحزاب-الآية 33.
[2] جاء في رواية زيد في صحيح مسلم ما يفيد هذا المعنى عندما سأله بعض الصحابة عن نسائه هل هم من أهل بيته؟ فقال: لا وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.
[3] يوسف: 28-29.
[4] أنظر كتاب المناهج التفسيرية في علوم القرآن للمحقق العلامة جعفر السبحاني، ص221.
[5] صحيح مسلم 4/1883، حديث 2424، طبعة: بيروت / لبنان. وقد أخرج الحديث جمع غفير من علماء السنة كالترمذي في سننه والطبري في تفسيره ج 22 ص 6، وابن حنبل في مسنده ج 6 ص 306، وابن الأثير في أسد الغابة، وابن حجر العسقلاني في تهذيب ج 2 ص 297 والحبّ الطبري في ذخائر العقبى ص 21 وعشرات المصادر الأخرى. يقول الرازي بعد نقله لهذه الرواية: وأعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث .
[6] جاء في الأثر أنه لما بلغت عائشة مياه بني عامر ليلا نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا، قالوا : ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا أني راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز وجل ذات بينهم، قالت: أن رسول الله(ص)، قال لنا ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب. أنظر المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري –كتاب معرفة الصحابة(ر)- لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ج 3، ص 120 وقد رواه أيضا كل من ابن حنبل في مسنده، والذهبي في سير أعلام النبلاء وغيرهم..
[7] روى الحاكم في المستدرك بسنده عن عقاب بن ثعلبة قال: حدثني أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب قال: أمر رسول الله (ص) علي بن أبي طالب بقتال الناكثين، والقاسطين والمارقين. أنظر المستدرك 3 / 139، و تاريخ بغداد 8 / 340 للخطيب البغدادي.
[8] وهم بعد الرسول (ص) علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين (ع).
[9] أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (ص) قال: ( إني أوشك أن أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عز وجل، وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني بهما أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) مسند أحمد بن حنبل: ج 3 – ص 17، وقد رواه جمع غفير من علماء السنة بطرق أخرى.
[10] يقول تعالى: ﴿ .. قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ الشورى-23
[11] يعود تأصيل مذهب أهل البيت (ع) للإمام السادس حسب ترتيب أئمة الشيعة، وهو جعفر بن محمد الصادق، وقد كان من ضمن تلامذته الإمام أبو حنيفة النعمان، ولهذا يسمى هذا المذهب أيضا بالمذهب الجعفري.
[12] يروى بأن النبي (ص) قال لعلي يوم غدير خم –وهو مكان يوجد على الطريق بين مكة والمدينة-: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأولادهم قالوا: بلى، فقال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه..أنظر مسند أحمد ج 1 وهو حديث متواتر رواه جمع كبير من ثقات رواة أهل السنة.
[13] سورة المائدة-55. وقد ذهب جمع من المفسرين أنها نزلت في علي بن أبي طالب.
[14] سورة المائدة-67. وهي الآية التي أمر الله فيها نبيه (ص) بتبليغ المسلمين بولاية الإمام علي حسب الرواية الشيعية.
[15] صحيح البخاري 5/24.
[16] صحيح الترمذي 2 / 297 ، وانظر المسند 4 / 437.
[17] صحيح البخاري 6 / 171 صحيح البخاري 6 / 171 ، صحيح مسلم 15 / 177 – 178 ..
[18] مستدرك الحاكم النيسابوري 3/ 126.
[19] سورة البقرة-الآية 124.
[20] سورة القصص-الآية 68.
[21] سورة الأنبياء – الآية 73.
[22] قال الشهيد الثاني في رسائله: الأصل الرابع التصديق بإمامة الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين، وهذا الأصل اعتبرته في تحقق الإيمان الطائفة المحقة الإمامية، حتى أنه من ضروريات مذهبهم، دون غيرهم من المخالفين، فإنه عندهم من الفروع..أنظر العقائد الاسلامية : 1/282 مركز المصطفى، نقلاً عن رسائل الشهيد الثاني: 2 / 145.
[23] أنظر العقيدة الطحاوية والعقيدة الواسطية والأحكام السلطانية وشرح المقاصد للتفتازاني والتمهيد للباقلاني ومنهاج السنة لابن تيمية.
[24] النكت الاعتقادية، مصنفات الشيخ المفيد: 10/37 .
[25] الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 186 ـ 188.
[26] تصحيح الاعتقاد: 238.
[27] شرح اللمعة الدمشقية 3: 180.
[28] العروة الوثقى 1: 68.
[29] مستمسك العروة الوثقى 1: 386.
[30] يحتج الصوفية لهذا العلم بقصة سيدنا الخضر(ع) مع نبي الله موسى(ع) التي وردت في سورة الكهف. أنظر تفسير الآية: “فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما” سورة الكهف: 65.
[31] سورة آل عمران: 7. أنظر اختلاف المفسرين من كلا المذهبين حول تفسير هذه الآية.
[32] سورة الجن: الآيات 26-27.
[33] سورة يوسف : 37.
[34] قطر الولي على حديث الولي، الشوكاني ، تحقيق وتقديم إبراهيم هلال ، بيروت إحياء التراث العربي بدون تاريخ: 249.
[35] فتح الباري: 13/181، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف ومستدرك الصحيحين: 3/617.
[36] ينابيع المودّة: 3 الباب 77.
[37] شرح ابن العربي على سنن الترمذي: 9/68 ـ 69.
[38] الصواعق المحرقة: 19 وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 12. وعلى هذا يكون لأتباع مدرسة الخلفاء، إمامان منتظران أحدهما المهدي، في مقابل منتظر واحد لأتباع مدرسة أهل البيت.
[39] أشار إليه النووي في شرح مسلم: 12/202 ـ 203. والسيوطي في تاريخ الخلفاء: 10.
[40] ذكر إمام الحرمين الجويني، وهو من رموز أئمة السنة المعتبرين حديثاعن عبدالله بن عباس (رض) قال: قال رسول الله(ص): “أنا سيّد النبيّين وعلي بن أبي طالب سيد الوصيّين، وأن أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المهدي” وقد قال عنه الذهبي في ترجمة شيوخه بتذكرة الحفاظ: 5/ 150 الإمام المحدث الأوحد الأكمل، فخر الإسلام صدر الدين ابراهيم بن محمد بن حمويه الجويني الشافعي شيخ الصوفية وكان شديد الاعتناء بالرواية.
[41] أصول الكافي: 1 / 286، كتاب الحجة باب ما نصّ الله ورسوله على الأئمة واثبات الهداة لمحمد بن الحسن الحر العاملي.
[42] سورة آل عمران-آية 103-
[43] مسند أحمد: 3/424، ح 10920 ومسند أبي يعلى: 2/274 ح 987، والمستدرك: 4/577، وعقد الدرر: 36 باب 1..
[44] الصواعق المحرقة ، ابن حجر: 165 طبع مصر.
[45] يقصد بها الشيعة عجل الله فرجه، على أساس أنه غائب بأمر من الله، وبأمر منه سيعود ليقود أمة جده محمد (ص). وبعض المغفلين من الشيعة مازالوا ينتظرونه في كل حين بحصان مسرج أمام السرداب الذي اختفى فيه بسامراء بالعراق عندما كانت تطارده الشرطة العباسية.
[46] الكامل في التاريخ: 7 / 274 في آخر حوادث سنة 260 هـ.
[47] وفيات الأعيان : 4 / 176 ، 562.
[48] سير أعلام النبلاء : 13 / 119 ، الترجمة رقم 60.
[49] مثال ذلك ما رواه المجلسي في بحار الأنوار (52/318) عن أن المنتظر (يقصد الإمام المهدي) يسير في العرب بما في الجفر الأحمر وهو قتلهم. وقد نقل هذا الحديث المجلسي عن بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار، الذي رواه عن أحمد بن محمد، عن ابن سنان عن رفيد مولى أبي هبيرة. وقد ضعفه العلماء لأن في سنده ابن سنان واسمه محمد وهو مطعون في روايته عندهم.
محمد أكديد: باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية