شبهات حول الشيعة 4
مغالطات عقدية
رغم دخول البشرية العصر الرقمي وما يسر ذلك من تيسير الولوج إلى مصادر المعلومة والتأكد من صحتها، مازال الكثير من فقهاء وعوام السنة يتهم الشيعة اليوم بالكثير من المغالطات والإفتراءات التي لا تصمد أمام الدليل، وإن كانت بعض الطعون في ما يفتريه أيضا بعض الشيعة من غلو وتطرف في الأقوال والأحكام صادقة، فإن ذلك لا يسمح باتهام القوم جملة واحدة وكأنهم جميعا على قلب رجل واحد، ولا يخلو دين أو مذهب من الغلاة والمتطرفين.
ومن التهم التي اشتهرت بين العوام والعلماء، مما تقدم الحديث عنه في مقالات سابقة كسب الصحابة وأمهات المؤمنين والقول بتحريف القرآن، و مما سنشير إليه في هذا المقال كالتوسل بالأنبياء والأئمة والصالحين وبناء الأضرحة والمقامات، وممارسة التقية، فضلا عن بعض الإختلافات الفقهية التي ينزلها البعض بمنزلة العقائد كالقول بزواج المتعة والسجود على التربة الحسينية، كما سيأتي الحديث في مقال لاحق عن الشبهات المثارة حول إمامة أهل البيت (ع) وما يلي ذلك من بعض المواقف والأحكام كالقول بالعصمة وما يترتب عن ذلك من الغلو والإلتباس..
ولم نكلف أنفسنا عناء كتابة هذه المقالات إلا حرص على وحدة المسلمين وتجاوز خلافاتهم التاريخية التي عادت اليوم بقوة لتهدد نموذج التعايش السلمي بين طوائفهم، وتعرض أوطانهم إلى الفوضى والتقسيم. حيث لاحظنا بأن هذه الإفتراءات قد لعبت دورا مهما في نجاح مهمة الجماعات التكفيرية التي تتبنى هذه المواقف والأحكام الطائفية في إقناع الشباب السني بالجهاد في بلاد المسلمين الشيعة، ومازال الإعلام يطالعنا إلى اليوم بالعمليات الإرهابية التي يذهب ضحيتها مئات الأبرياء من أبناء هذه الطائفة خاصة في العراق رغم انتهاء الإحتلال الأمريكي هناك. وبالمقابل يتم إفشال كل محاولات التقريب التي ما فتئ العلماء المنصفون من المذهبين على تعهدها لرأب الصدع وتجاوز الخلاف دون جدوى..
من بين هذه الإشكالات، تأتي مسألة التوسل وزيارة المقامات والأضرحة كباب مشرع للطعن في عقيدة القوم عند السلفيين بالخصوص، إذ يدأب الصوفية من أهل السنة أيضا على هذا الأمر الذي لم يكن فيه خلاف بين المسلمين ولم يعترض عليه أحد من أصحاب المذاهب المعروفة قبل مجيء ابن تيمية الذي أسقط بعض الآيات التي نزلت في المشركين على المسلمين، فعد التوسل والنذور لغير الله والصلاة في المقامات والأضرحة وغير ذلك من مظاهر الإحتفاء أو التقرب إلى الله تعالى بجاه الأنبياء والصالحين من الشرك العظيم، ولو أنك لن تجد مسلما على وجه الأرض يعتقد بإشراك الموتى مع الله في الخلق والتدبير، وما ذلك إلا اعترافا بفضل هؤلاء في تبليغ الرسالة و الإجتهاد والتربية والسمو في مراتب الإيمان والسلوك، وتوسلا بمنازلهم عند الله تعالى.
وقد علمنا شرعية التوسل عن طريق حديث عثمان بن حنيف الذي رواه في الضرير الذي أتى النبي (ص)، فقال له ادع الله لي أن يعافيني. فقال (ص): إن شئت أخرت لك وهو خير، وان شئت دعوت. فقال: ادْعُه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء : “اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمّد نبي الرحمة. يا محمّد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقضى . اللهم فشفّعه فيَّ”[1].
وهو حديث لا إشكال في صحته إذ يعترف به شيخهم ابن تيمية نفسه، وفي سنده أبو جعفر الخطمي وقد وثقه. وقد أورده كل من النسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم في مستدركه[2].
وقد جاء في مسند الإمام أحمد: “اللهمّ إني أسألك بحقّ السائلين عليك وبحقّ ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً و لا سمعة، خرجت إتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت”[3]
ولفظ السائلين هنا لفظ عام يستوعب كل السائلين من لدن آدم(ع) إلى يوم السائل بل يستوعب الملائكة ومؤمني الجن أيضاً، ولا يمكن حصره بالسائلين الأحياء فقط.
أما بناء الأضرحة والمقامات فليس بمخالف للشريعة، وفي القرآن الكريم مثل عن قصة أهل الكهف، حيث يقول تعالى: “وَكَذلِكَ أعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إذْ يَتَنَازَعُونَ بَـيْنَهُمْ أمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُـنْيَاناً رَبُّهُمْ أعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً”[4] وفعلا تم بناء المسجد على قبورهم ومازالت آثاره اليوم في دولة الأردن. يقول الرازي في تفسير”لنتخذن عليهم مسجدا”: نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد.[5]
واليوم لم يسلم مقام أو ضريح في أرض العراق أو الشام أو ليبيا أو مالي أو كل أرض دنستها تلك الجماعات التكفيرية التي تعود في اجتهاداتها إلى مثل هاته المواقف المتطرفة لبعض السلف من الاستهداف، حيث فجروا وخربوا أضرحة ومقامات شكلت لزمن بعيد جزءا من التراث الإنساني العالمي وليس فقط الإسلامي وسووها بالأرض لتصبح أثرا بعد عين. وقد هدد الوهابيون عند احتلالهم للجزيرة العربية تمهيدا لقيام مملكة آل سعود بتدمير قبر الرسول (ص) وتسويته بالأرض بعد أن دمروا فعلا قبور وأضرحة عدد من الصحابة والأئمة من آل بيت الرسول (ص) وزوجاته وسووها بالأرض، لولا تدخل مصر والهند لمنع الكارثة. في الوقت الذي نجد كل الأمم تحتفي بآثار رجالاتها من القادة والحكماء والصالحين، فتنصب لهم التماثيل والمقامات، وتحيي ذكراهم فتسير الأجيال القادمة على خطاهم..
ومن جانب آخر ليست التقية [6]من أصول العقائد عند القوم[7]، وماهي إلا رخصة أذن لهم بها الأئمة من أهل البيت (ع) بعد ان استحر فيهم القتل خاصة خلال العصر الأموي الذي كان حكامه يكنون عداء لأهل بيت الرسول (ص) وشيعتهم، فما ادخروا وسعا لإبادتهم حتى اضطروا إليها، بإخفاء تشيعهم ونصرتهم لأهل البيت (ع) وإظهار المودة لأعدائهم مداراة وحقنا لدمائهم. وفي القرآن الكريم بعد رخصة لمن يخاف من عدوه، إذ يقول تعالى: ” لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ”[8].
وقد أخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين: أن النبي (ص) لقي عمارا وهو يبكي، فجعل يمسح عن عينيه ويقول: “أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت: كذا وكذا[9]، فإن عادوا فقل لهم ذلك”[10].
تأتي بعد ذلك بعض الخلافات الفقهية التي أراد البعض استغلالها للتشنيع على مذهب الشيعة دون تحقيق في جذورها و مضان أدلتها في الكتاب والسنة، كزواج المتعة، والسجود على التربة الحسينية في الصلاة، وإعطاء الخمس[11]، ومسح الأرجل في الوضوء[12] وغيرها مما يجب أن يناقش مع أصحاب الإختصاص في الفقه لا مع المتطرفين الذين يحملون الكلام على غير محمله، ولو أقيمت عليهم الحجج والبراهين لا يزيدهم ذلك إلا تعنتا ونفورا.
وقد تجد أغلبهم لم يطلع يوما على دليل الزواج المؤقت مثلا في كتاب الله تعالى، ثم يطعن في أعراض القوم ويتهمهم بتشريع الزنا، مع أن الآية واضحة في سورة النساء: “فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، و لا جناح عليكم فيما تراضيتم عليه من بعد الفريضة، إن الله كان عليما حكيما”[13].
وفي الحديث المروي عن جابر بن عبد الله يقول: ” كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث” [14]مما يفيد بأن عمر بن الخطاب (رض) هو من نهى عن هذا النكاح وليس الرسول (ص). وقد اجتهد الفقهاء من أهل السنة في أنواع من الأنكحة لم يرد فيها دليل في الكتاب أو السنة كالزواج العرفي لدى الحنفية والمسيار لدى السلفية الوهابية..
وفي شأن سجود الشيعة على التربة الحسينية في الصلاة أيضا لبس كبير، إذ يستنكر عليهم أهل السنة ذلك وخصوصا الوهابية ويعدونه من القبائح ومن مبطلات الصلاة، كما كان يروج لدى العامة بأن الشيعة يسجدون للحجر، وقد ذكر التيجاني السماوي في كتابه ثم اهتديت بأنه التقى في رحلته إلى العراق مع السيد محمد باقر الصدر، وقد كان المراجع الكبار والعلماء الأفذاذ في العالم الإسلامي. ولما سأله عن الأمر قال له: يجب أن يعرف قبل كل شئ أننا نسجد على التراب، ولا نسجد للتراب ، كما يتوهم البعض الذين يشهرون بالشيعة، فالسجود هو لله سبحانه وتعالى وحده، والثابت عندنا وعند أهل السنة أيضا أن أفضل السجود على الأرض أو ما أنبتت الأرض من غير المأكول، ولا يصح السجود على غير ذلك، وقد كان رسول الله (ص) يفترش التراب وقد اتخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها، وعلم أصحابه (رض) فكانوا يسجدون على الأرض، وعلى الحصى [15]ويسجد الشيعة على تربة مجففة من كربلاء تيمنا بها لكونها اختلطت بدماء أهل البيت (ع) الزكية التي سالت على هذه الأرض في معركة كربلاء الشهيرة، والتي قتل فيها الإمام الحسين (ع) على يد جيش يزيد بن معاوية الأموي..
وهكذا يمكن مناقشة جميع الأدلة الواردة حول عقائد القوم ومذهبهم بالدليل من الكتاب والسنة، فما وافقهما فقد وافق الحق، وما خالفهما وجب إنكاره، دون مغالاة في التعصب لبعض المواقف والأحكام التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين قبل أن تسيء إلى الشيعة كفريق من المسلمين.
محمد أكديد باحث في اختلاف المذاهب الإسلامية
[1] سنن ابن ماجة: 1 / 441 الحديث 1385 ومسند أحمد: 4 / 138 ح 16789 ومستدرك الصحيحين
[2] للحاكم النيسابوري: 1 / 313 والجامع الصغير للسيوطي: 59 ومنهاج الجامع: 1 / 2866.
[3] مسند أحمد: 3/21، وسنن ابن ماجة: 1/356.
[4] الكهف: 2.
[5] تفسير الرازي: 11/106 ـ دار الفكر ـ 1415 ـ 1995 م .
[6] إخفاء الإيمان وإظهار الكفر وعكسه النفاق وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
[7] أنظر مثلا كتاب عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر وفيه مختصر لعقائد الشيعة الإمامية التي توافق عليها فقهاؤهم منذ قرون بالأدلة من الكتاب والسنة مما تواتر عند أهل البيت (ع) والعقل.
[8] سورة آل عمران- الآية 28
[9] وكان أن وقع في النبي (ص) وسبه وذكر آلهتهم بخير ليطلقوه.
[10] الدر المنثور للسيوطي: 4: 132.
[11] دفع خُمس المال لأصناف وردت في القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالى: ” وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” وهي محل خلاف بين أهل السنة الجماعة والشيعة، حيث يرى السنة أن إخراجها واجب على الكفار فقط في الركاز وغنائم الحرب، بينما يرى الشيعة أن وجوبها يشمل أيضاً كل مال يغنمه المسلم زائد عن مؤونته السنوية.
[12] يرى فقهاء الشيعة بوجوب المسح على الأرجل لأن الأمر بالمسح جاء متأخرا عن الأمر بالغسل ويشمل بعض الرأس والأرجل حسب الآية “يا أيّها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين”-الآية 6 من سورة المائدة- ويوافقهم على ذلك بعض علماء السنة كالزمخشري في الكشاف عند تفسيره للآية.
[13] سورة النساء-الآية 24.
[14] أنظر صحيح البخاري: 6|27، كتاب التفسير، تفسير قوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) من سورة البقرة و صحيح مسلم: 4|130، باب نكاح المتعة الحديث 8، طبع محمد علي صبيح.
[15] أنظر كتاب ثم اهتديت للتيجاني السماوي-ص 66.