سيرتي مع المسيحية
تعلمت من أبي أطال الله في عمره،أنه إذا أردت أن أتكلم عن شخصي ألا أقول “أنا..أنا..أنا..”،و أن أبدي شيئاً من الوقار و الإستحسان لمن أكلمه أو أتحاور معه،و هنا في هذه السيرة،و التي هي عبارة عن مقالات من سيرتي الذاتية،أود التكلم فيها للقراء إذا تفضلوا طبعا لقرأتها عن شخصي و سيرتي الذاتية مع المسيحية..في الحقيقة كنت قد نشرت عبر هذا المنبر ثلاثة مقالات حاولت أن ألخص من خلالها بعض الأمور التي جعلتني أهتم بالفكر المسيحي و لا أقول الدين المسيحي،فالمسيحية لعمري ليست ديانة بل رسالة،لذلك فهمت منذ مرحلة متقدمة من عمري أني إذا أردت أن أحكي لأي كان عن حياتي مستقبلاً،فسيكون علي أن أحكي لهم قصصا متباينة و لكنها في نهاية المطاف متكاملة من “سيَري” الذاتية التي قد يستفيذ أي قاريء أخر بمعرفتها.
حكايتي مع المسيحية سيرة قائمة بداتها و حكاية لها حبكتها الخاصة،لذلك أحب أن أشارك القاريء الكريم (و خصوصا من القراء الشباب) جزءاً صغيراً من سيرة علاقتي بالمسيحية،الغاية من هذه المشاركة أن أوضح فكرة أساسية،و هي أن فعل الإستحضار الذي تكلمت عنه سابقاً في أحد المقالات من خلال هذا المنبر و كما عرفه التاريخاني عبد الله العروي في كتاباته و مقالته التي عنونها ب”ما وراء الفلسفة و علم الكلام”،و دراساته للتاريخ الراهن و القديم،في حقيقته سيرة ذاتية و تاريخ فريد يختلف من شخص لأخر،بحيث يمكن أن نستفيد من اطلاعنا على تفاصيل كل “التاريخ القرائي”،فكلمة histoire في الفرنسية و history في الإنجليزية مشتقتان من لفظة سنسكريتية قديمة تعني “الحكمة”،فلا يمكننا أن نكتشف الحكمة إلا في التاريخ كما يقول العروي و الجابري أيضاً في دروس الفلسفة لما تكلم عن التذكر و النسيان (1966)،فمنذ زمن القرائيين و الكتبة اليهود (كتبيم) كانت الحكمة تستنبط من الكتابات المقدسة و الكتابات التفسيرية لها كالجمارة و المشنا.
يستغرب بعض أصدقائي (و أحياناً يغضبون أيضاً) عندما أحدثهم عن استحضار الله في الإنسان،لذلك أكون مضطرا أحيانا لأبين لهم أني قرأت هذا المفهوم أولاً في معظم الكتابات التي تتكلم عن الإستحضار من خلال الكتابات الفلسفية و التاريخية و ليس الدينية فقط،و التي لها علاقة بالمسيحية،و أسرد لهم بعض المقاطع من هاته الكتب الفلسفية و التاريخية.
إستغرب أحد أصدقائي ذات يوم عندما بدأت أناقش معه تفسير الجلالين للقرأن،إذ بينت له خلوه من تفسير الكلمات القرأنية العديدة التي جاء ذكر الروح فيها،لأن ذكر الروح هو استحضار لله في جل الكتابات الدينية سواء اليهودية و المسيحية و الإسلامية..كان أفضل صديق لي في دراستي و في بحثي المقارن هذا صديق صحفي لا أود ذكر إسمه هنا لإعتبارات حميمية و خصوصية،كنت ألتقي به يومياً على الساعة الخامسة بعد الزوال لنتناقش و نتحاور في الأمور الثقافية و الفكرية التي تتجاوز سننا،نتحادث حول الروايات الحديثة و القديمة التي قرأها و عن مغامراته..كان أقرب الناس إلي دائماً أناس مدمنون و نهمين في قرائاتهم للكتب و المجلات العلمية.
فالكتاب و علاقتي به “سيرة ذاتية” قائمة الذات في تاريخي الصغير الذي أسميه “تاريخا”،لذلك فسأحكي لكم بعض المشاهد الأساسية في هذه السيرة (إذا كان الأمر يهمكم بطبيعة الحال).
تبتدأ قصتي مع المسيحية مع منتقد للرسالة المسيحية مشهور يدعى أحمد ديدات..لست أدري إن كنتم تعرفون هذا الرجل ؟ كان يبدوا لي رجلاً محنكاً و مقتدراً في دحضه للأفكار و المعتقدات المسيحية مع المتناظرين معه من المسيحيين الغربيين،تعرفت على كتابات أحمد ديدات عندما كان سني ستة عشر سنة على ما أتذكر،ككتاب “الإختيار بين الإسلام و المسيحية” و “هل مات المسيح على الصليب”،و كتاب “من دحرج الحجر” الذي تم منعه بأمر من مديرية أمن الدولة بمصر لأنه يسيء للمسيحية،و كتاب “هل الكتاب المقدس كلام الله ؟ ” و أخيراً كتاب “الصلب وهم أم حقيقة ؟”.. لقد كنت أعيش في ذلك الوقت الذي قرأت فيه هاته الكتب النقدية لأحمد ديدات و غيرها من مئات الكتب الفلسفية و الدينية و التاريخية أزمة “وجودية” حادة،إذ كنت أتسائل دائما عن حضور الله و غيابه في حياتنا الإجتماعية و الدينية..و في سن العشرين إكتشفت لأول مرة بأن “الحياة ” (بالمعنى البيولوجي للكلمة) لا يمكن أن تكون مجرد إمتداد طبيعي للمادة الميتة كما تقول بذلك النظرية الداروينية و المادية الماركسية،فتجارب باستور،التي كنت أقرأ عنها أقنعتني بأن “الحياة” لا يمكن أن تأتي إلا من “الحياة”…الباكتيريا لا تأتي إلا من الباكتيريا و العُضيات لا تأتي إلا من العُضيات – فمن أين تأتي الحياة إذن ؟ ممَ خَلقت هذه الحياة ؟ و مم خلق الجنس البشري ؟
لقد كانت هاته الأسئلة،أسئلة وجودية بالنسبة لي،لأنني أعتقد أن هناك شيء غير مفهوم في معتقد أبائي و أجدادي الذي تشربته،لكن لا أستطيع التفكير فيه دائماً و أحاول أن أتناسى السؤال في الدين و التدين بالمعنى السوسيولوجي و الأنثربزلوجي،فهذا المعتقد الذي اختارته لي جغرافيتي بدون إدن لم يجبني على جلً تساؤلاتي الوجودية التي أحاول أن أسلوها حسب اللسان العربي،و لا أقول أنساها،و منها الإستحضار الإنساني و حضور الله في الإنسان و التاريخ،توجهت بعد ذلك لدراسة الكتابات الفلسفية و الإهتمام بشأنها النقدي و البنيوي،تعلمت الكثير من دراستي لتفكيكية “دريداً” و وجودية “سارتر”..تعلمت من الفلسفة العمق في التفكير (و لو أني أبدو ساذجا من الناحية الإجتماعية كما يقول معارفي)،و الوضوح في التعبير،و التأني في تبليغ الأفكار،و التفصيل الدافع في الشرح.،كما تعلمت من الفلسفة أن حياتنا تتضمن سرا أعمق بكثير من السطحيات التي تعلمتها من الفقهاء و رجال الدين الذين صادفتهم في مشواري الدراسي و البحثي،لذلك قررت أن أتعمق أكثر في الدرس و التحصيل.
قصتي مع الفكر الفلسفي طويلة و غنية سأحكي لك عنها فيما بعد،يكفي أن أذكر لك الأن بأني كنت قارئا نهما للإنتاجات الفلسفية الرصينة،فقد قرأت العديد من كتابات كارل ماركس و برغسون و هيغل و إيمانويل كانط،كذلك تعرفت على كتابات محمد عابد الجابري و عبد الله العروي و محمد أركون في الفلسفة و الفكر الإسلامي،قرأت كل هاته الكتابات قبل سن العشرين،فصار عندي سؤال أخر ليست له علاقة بالإستحضار الإلهي في الإنسان،إنه الإيمان و سؤال العقل !
من المعروف أن الخصائص العامة للعقل تتحدد في أنه كوني،يقبل التداول و الإنتشار،الإقناع و الإقتناع،في مقابل الإيمان الذي هو مرتبط بمفاهيم مختلفة عن الأولى،و أحيانا على طرفي النقيض،فهذا الأخير ذاتي،يعتمد مفاهيم الكشف و التسامي..تبعا لذلك فالأشياء التي نصل إليها عن طريق العقل لا يمكن أن نخظعها مع الأمور التي ترتبط بالإيمان،إذ هما من طبيعتين مختلفتين،و كذلك على مستوى منهجهما،تأملوا معي قول رينان rinan :”الإيمان أمر واقع وجب أن نناقشه كأمر واقع” إنه شيء منته في دواخل الفرد،بعيدا عن ذوات الأخرين،أما الدين،فالبحث عن الأصل الإشتقاقي له في أصله اللاتيني،يوصلنا إلى أنه يعني الرابط الذي هو – في هذه الحالة – رابط يجمع مجتمعا و يجعله متماسكا،و هذا ما ذهب إليه الأنثربولوجي الإنجليزي “فريزر”.
و تدلنا قصة عالم الإقتصاد “أدم سميث” مثلاً،على حجم تحكم الروابط في الإختيار الديني،فصاحب كتاب “غنى الأمم” يروي لنا،أنه أخذ لما كان في عمر الثالثة من طرف عمه إلى مذهب غير ذلك الذي ينتمي له والداه،و يجعلنا هذا الإنتساب المذهبي الجديد لأدم سميث على يد عمه نتسائل – هل كان ليفعل نفس الأمر لو لم يتدخل هذا العم ؟ أو لم يكن أصلا – كان سيؤمن بنفس المذهب ؟ أم أنه سيعتقد بأن “الدين الحق” هو شيء أخر ربما هو ما وجد عليه أبويه ؟
ما الفائدة من هذه القصة ؟
لنقم بتجربة بسيطة،لنتخيل أننا “أدم سميث” – هل كنا سنكون مختلفين عن الطفل إبن الثالثة في إيمانه الطفولي ؟
ما نقوله عن “أدم سميث” يمكن أن نقوله عن أي إنسان غيره ولد لأبوين و عاش طفولة مع غيرهما – ماذا يا ترى يكون دين الأجداد عندهم ؟
توليد الأسئلة و الأمثلة ليس بالأمر الصعب،يمكننا أن ننظر لكل أولئك الذين ينشؤن في عائلات تتبناهم،و سنتأكد أن الدين مسألة ظروف و مصادفات،يغلب في تحديدها الميلاد ثم الوسط الديني الذي يعبر فيه كل فرد،من هنا تكون الإجابة المفترضة عن الإدعاء بالقول “ديني صادق و غيره غير صادق !” هي – هل أنت متأكد أن دينك فعلاً هو صادق ؟ أم أنها المصادفة ؟
ومن هنا نتساءل بكل جرأة و بلا تطرف – هل الإسلام دين صادق ؟ أم التاريخ و الجغرافيا أنشأته ؟ هل كوني عربي،فأنا مسلم بالضرورة ؟
لكم أن تخمنوا كم هو صعب هذا التحدي !!
محمد سعيد : عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات و الأبحاث الإنسانية