رداً على منتقدي المسيحية
للنقد مفاهيم وأشكال لا تعد قد تصل بعض أشكال النقد إلى رفع النقد إلى معنىَ يجعله قريباً من التقويم و التقييم في نفس الآن، التقويم بمعنى البحث عن مكامن الخلل من أجل الوقوف لاقتراح البدائل والحلول،أما التقييم فبمعنى إعطاء القيمة الحقيقية للموضوع المعني، بإظهار جوانبه الإيجابية كما السلبية،فالنقد هو التمييز بين الأصلي و النص الممتاز،كما يقول أمبرطو إيكو، في كتابه “حدود التأويل”.
لا يكون هذا النوع من النقد الذي قد يسميه البعض بالبَنَاء،إلا عندما يكون الناقد معنيا فعلاً بموضوع النقد،و هو بنقد الموضوع ينتقد ذاته و إن بطريقة غير مباشرة،أي أن للموضوع إرتباط وجداني و معرفي أو معرفاتي بذات الفرد و إهتماماته الشخصية،و من هنا يأتي ردنا عل منتقدي المسيحية.
فقد كشف تقرير مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مارس (2010)،رفضه تداول و طبع أحد الكتب الشهيرة و التي يفتخر بها كل مسلم يريد أن ينتقد صديقاً له مسيحي أو أن يتسلح به في نقاشاته مع المسيحيين،و هذا الكتاب الذي تم منعه يرجع للسيد أحمد ديدات الذي إشتهر بإنتقاداته للعقائد المسيحية و نقضه للكتاب المقدس في مناظرات بين رجال دين مسيحيين و شخصه بثمانينات القرن الماضي،و قال التقرير،الموقع من الإدارة العامة للبحوث و التأليف و الترجمة (تم إرساله إلى نيابة أمن الدولة العليا بمصر) :”لا يجوز نشر كتاب “من دحرج الحجر ؟” لأحمد ديدات،لأن هذا الكتاب و إن جاز نشره بجنوب إفريقياً،فإنه لا يجوز نشره في مصر لما يثيره من قضايا ليست محل جدل في هذا الوطن” حسب جريدة “الوطن اليوم” (1)،واعتبر التقرير أن ما أورده أحمد ديدات من حجج للدفاع عن وجهة نظر القرءان في هذا الموطن ضعيفة،و من أجل هذا و سداً للذرائع و إغلاقاً لباب الفتن و درءاً للمفاسد يجب حجب الكتاب،و كان كتاب أحمد ديدات من ضمن نحو 100 كتاب لجماعة الإخوان المسلمين قد قدمتها نيابة أمن الدولة إلى الأزهر لإبداء الرأي الفقهي و الشرعي فيها.
هذا مثال أشرت له لأبين أن نقد المسيحية لا يدوم،و فيما بعد يعرف العموم أن نقد هذه الرسالة هو من سابع المستحيلات،لأن لاهوتها لا يقبل ذلك !
أولاً = مفهوم النقد و الكتاب المقدس
مفهوم النقد،هو القيام بمحاولات لغاية التمييز بين الخطأ و الصواب،و أصله العربي تحديداً يعود إلى المعروفين بتمحيص النقود المعدنية التي طالما تعرضت للتزييف،مما يعنى أنه عملية يستفيد منها كل من البائع و المشتري،فالمشتري يقدم النقود،و البائع يتلقاها فتكون عليه الاستعانة بالناقد متى خامرته الشكوك في عدم سلامة ما تلقاه من أي تزييف محتمل،و من هنا جاء الكلام عن النقد الأدبي،غير أن بابه اتسع للحديث لاحقا عن بقية أنواع النقد المعروفة،و هو كباب له أقفاله،و لهذه الأقفال مفاتيح من ضمنها كمدخل أساسي،قراءة المكتوب قراءة مركزة لاستيعاب مضمونه،فضلا عن كون النقد يقتضي أسلوبا يراعي فيه الناقد ضوابط النحو و اللغة و الوضوح بعيداً عن أي التباس و عن أي تدليس – فما علاقة النقد بالكتاب المقدس ؟
سنناقش هنا المقولة التي تقول “أن النص المقدس قابل للنقد،و بأنه محرف عن النسخ الأصلية له” – فماذا يقول الكتاب المقدس في هذه التهم الموجهة له ؟ و في مجال تحريفه ؟
جاء بإنجيل مرقس “السماء و الأرض تزولان و لكن كلامي لا يزول” (13 : 31) أما بسفر إشعياء فقد جاء :”يبس العشب ذبل الزهر،و أما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد” (8 : 40) و جاء في المزمور “لا أنقض عهدي و لا أغير ما خرج من شفتي” (89 : 34) أما في إنجيل متى فيقول المسيح :”فإني الحق أقول لكم،إلى أن تزول السماء و الأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (متى 5 : 18)،أما في رؤيا يوحنا و في أخر كلمات الكتاب المقدس في الإصحاح (22 : 18) :”لأني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب،و إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب،و إن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة و من المدينة المقدسة،و من المكتوب في هذا الكتاب”،أما في سفر التثنية (4 : 2) :”لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به و لا تنقصوا منه كي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها”،و في سفر إرميا، الإصحاح الأول،الفقرة (12) “فقال الرب لي أحسنت الرؤيا،لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها”،و في سفر الأمثال (30 : 5) “كل كلمة من الله نقية ترس هو للمُحتمين به..لا تزد على كلماته لئلا يوبخك فتكذب”.
هذا بعض ما جاء في الكتاب المقدس من آيات و فقرا ت، تؤكد بأن كلمات الله لا تزول و حتى بعد زوال الأرض، و أن الله لا ينسخ كلامه و لا يغير أقواله،هذه الفقرات التي ذكرتها و غيرها تؤكد أن الكتاب المقدس غير قابل للنقد بعهديه القديم و الجديد،إذ هو كلام الله الذي لا يتغير و الذي لا ينقص أو يزيد،أما إذا أردنا أن نبحث في أمور أخرى تثبت أيضاً أن الكتاب المقدس كما تم وضعه قديما هو كذلك اليوم ،فإن لدينا العديد و الكثير من الأدلة المادية على ذلك،أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
1 – النسخة الأسكندرانية : و هذه النسخة أهداها “كيرلس لوكارس” بطريرك القسطنطينية إلى ملك إنجلترا “شارل الأول”،الذي حكم سنة (1628م) و كان “كيرلس” قد أحضرها من الإسكندرية حيث كان بطريركاً سابقاً لها،و النسخة مكتوبة باللغة اليونانية سنة (325 / 326 م)،و تحتوي على كل أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد،و هي محفوظة بعناية في المتحف البريطاني بلندن،و هذا معناه أن هذه النسخة مطابقة تماماً لما بين أيدينا.
2 – النسخة السينائية : (نسبة إلى جبل سيناء) هذه النسخة اكتشفها العلامة الألماني “تشندروف” في دير القديسة كاترينا بسيناء، و ذلك في سنة (1844 م)،و هي ترجع إلى سنة (450 م)،و قد أهداها إلى الإسكندر قيصر روسيا،و بقيت ملكا للقياصرة إلى أن قامت التورة البلشفية التي كانت ضد الأديان،و تدعي بأن الأديان أفيون الشعوب،فقامت بريطانيا بشراء هذه النسخة و هي مودعة في المتحف البريطاني بلندن أيضاً كالنسخة الإسكندرية.
3 – النسخة الفاتيكانية : و هي مكتوبة على ورق بردي نقي صافي،و الحروف التي كتبت بها هذه النسخة هي ثلثي صغير،و تمت كتابتها تقريباً سنة (300 ب.م)،و تحتفظ مكتبة الفاتيكان بهذه النسخة التي تعتبر من أجمل النسخ التي تم العثور عليها حتى الآن،و هي تشمل العهدين القديم و الجديد بنفس النص الذي هما عليه الآن.
ثانياً = مصداقية الكتاب المقدس
إن الظاهرة الدينية كموضوع للدراسة و البحث،تختلف عن الظواهر الطبيعية في العلوم البحتة،و لا يمكن بالتالي فقهها بمجرد الملاحظة الخارجية،إذ تبقى هذه الطريقة مجتزأة و غير كافية،فمثلا – كيف يفهم اليهودي دينه ؟ كيف يشرحه.ويعبر عنه ؟ كيف يعيشه و يطبق نوامسه و شرائعه ؟ كيف يعي هو نفسه تاريخه و يرويه ؟ كيف يقونن شرائعه لتتماشى مع العصر ؟ كيف يعلم مبادئ دينه لأبنائه ؟
إنها المقاربة الداخلية للأديان،و أول شروطها أن نصغي إلى الأخر كما يفهم هو نفسه و ليس كما كنا نتخيل.
ليس الغرض من كتابتي لهذا البحث “رداً على منتقدي المسيحية” الدفاع عن المسيحية أو كتابها بأي شكل من الأشكال،و إلا لغدت هي الأخرى عملاً دعائياً ديماغوجياً،و إنما أردت التعريف بالكتاب المقدس ودحض منتقديه،فحتى في المحاكم يطلب من المتهم أن يعرف هو عن نفسه في البدء قبل الشروع في محاكمته،كيف الأمر إذاً في مبحث ينتمي إلى العلوم الإنسانية،و هو مناقشة الكتاب المقدس و الدفاع عنه،ففي إطار التعريف بالنفس يندرج هذا البحث المجتزئ من بحث لنا حول مصداقية المسيحية و كتابها.
“أنا الرب و لا إله أخر غيري،إله بار و مخلص ليس سواي، التفتوا إلي و اخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله و ليس أخر،بذاتي أقسمت خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع،إنه لي تجثوا كل ركبة يحلف كل لسان” (إشعياء 21:45).
فما هو ذلك السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه ؟
و ما هو هذا السؤال الذي سينزع باحثاً في العلوم الإنسانية لمدة ثلاث سنوات (2015 – 2013) يتفرغ أثنائها لإجابة عنه ؟ إنه سؤال تجده تقريباً في كل مكان من المغرب،كما تجده يوجه عكسياً هكذا للمسيحيين – لماذا حرفتم كتابكم ؟ (التوراة / الإنجيل).
كان هذا السؤال العكسي هو أول ما وجهته لنفسي سنة (1999) – كيف حرف المسيحيون كتبهم ؟
و عندما فحصت كتب عديدة حول تحريف (التوراة / الإنجيل) وجدتها تقول مجتمعة أن هاذين الكتابين لعبت بهما أيادي بشرية و حرفتهما عن أصلهما العبري و اليوناني،و وجدت بعض المؤلفين يقولون “أنه بفضل الدراسة الواعية للنصوص المقدسة المسيحية،إستطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الإنتهاء منها أن التوراة و الإنجيل يحويان تحريفات قابلة للنقد من وجهة نظر العلم الحديث” (التوراة و الإنجيل و القرءان في نور التاريخ و العلم) لموريس بوكاي، الصادر سنة (1986) (2)
و وجدت هذا الكتاب يقول أيضاً “أن الأناجيل متناقضة و لا تتفق و العلم،الخيال و الهوى في عملية تحريرها،التعديلات غير الواعية التي أدخلت عليها” (ص 13)،و يقول أن المتخصصين في دراسة الكتاب المقدس يتغافلون هذه،و إن ذكروها يحاولون أن يستروها ببهلوانيات جدلية” (ص 14)
و واضح أن المَسلمين يهتزُون طرباً لكتاب “موريس بوكاي” لأنه إن كان صحيحاً،يعزُز ثقتهم في القرءان،و يكون بمثابة شاهد ثان على صحته بعد الحديث،و لو أنه يُحزن المسيحيين لأنه يغفل الأدلة القوية على صحة الكتاب المقدس،فهو لا يذكر مثلاً نبوات الكتاب المقدس التي تحقُقت،و ينكر أن الأناجيل من كتبة شهود عيان،و بكلمات قليلة يُسقط ذكر نسخ الإنجيل القديمة،تاركاً قارئه يظن أنه لا يوجد ما يشهد لصحة نصوص الإنجيل الذي بين يدينا اليوم،بل إنه يشبه الإنجيل بأغنية رولاند التي تجمع حقيقة صحيحة بضوء زائف،و تتناسب هذه الأفكار مع ما يدُعيه المُسلمين أن المَسيحيين حرُفوا كتابهم وأنه لا يوجد شاهد صادق على ما قاله المسيح أو فعله،و مع أن هذه التهمة مزعجة للمسيحيين بأنهم حرفوا كتابهم المقدس إلا أنني اعتدتُ عليها لكثرة ما قرأته حول التحريف و لكثرة ما سمعُته من أساتذة جامعيين (أحمد شحلان – مصطفى زرهار (3) – مولاي عمر – إدريس العماري…)،و لكثرة ما سمعُته أيضاً من طلبة و زملاء لي في مشواري البحثي الدراسي حول عدم التحريف الكتابي،فقد قرأت عن أقدم مخطوطات للكتاب المقدس كالسينيائية و الفاتيكانية و الإسكندرانية..
لقد كان أمامي برهان ملموس على أن الإنجيل لازال كما هو بغير تغيير، هذا البحث ليس مجرد رد على تقييم الكتب التي قرأتها حول “تحريف الكتاب المقدس” و لكنه أكثر من ذلك،إنه محاولة لدراسة المُواجهة بين الإسلام و المَسيحية على مستوى عميق،عقلياً و عاطفياً،فالمُسلمون مثلاً يقولون أن محمداً سيكون شفيعهم،و هي فكرة عاطفية مريحة،لأنه لا يوجد من يريد أن يقف وحيداً في اليوم الأخير،و لكن هل هناك برهان قرأني على فكرة شفاعة محمد ؟
يقول المسيحيون أن المسيح مات نيابة عن ذنوب العالم كله (يوحنا 3 : 16) و أنه الأن حي يشفع في كل الذين يضعون ثقتهم فيه كمخلُص لهم – فهل يوجد برهان إنجيلي على صحُة قولهم هذا ؟
و يدعي المُسلمون أن الكتاب المقدس تحرَُف – فهل يوجد برهان من القرأن أو من الحديث أو من التاريخ على صدق هذا الإدعاء ؟
و إذا كان الكتاب المقدس و القرءان يتناقضان – فكيف يميز المرء الصحيح منهما ؟ و كيف نؤمن بصحة نبوُءة ما ؟ و ما هو المقياس الذي نعتمده في وصف كتاب ما بأنه ذو قيمة روحية ؟
من المعروف أن لكل كاتب تحيُزه الطبيعي،و إني أفترض أساساً أن الكتاب المقدس وثيقة تاريخية صادقة،و أن بشارة الإنجيل المفرحة صحيحة،و في دراستي للقرءان و الكتاب المقدس بعهديه حاولت أن أقبل النصوص الواضحة كما فهمها سامعوها و قارؤها، و أن أتحاشى فرض رأيي المسبق و تفسير من عندي لبعض المتون الكتابية الإسلامية و المسيحية،و أن أعطي تأويلاً خارج عن النص،و للقارئ أن يقرر مقدار نجاحي في محاولتي هذه.
يقول الباحثون في العلوم الإنسانية،إن إختيار “إفتراض أساسي” ليس اختياراً موفقاً في دراسة الظواهر الإنسانية،و هذا ينطبق على الدين كظاهرة إنسانية،و أقترح أن أستعمل التعبير “إفتراض مُسبق” أو “مُسلمات”،و لكني أفضًل الإقتراح الأول رغم عدم إتفاق الباحثين في هذا الشأن،لأنه يسير في خَط الفيلسوف البريطاني “وليم أوف أوكام” willam off okkam الذي قال :”لا يجب أن نضاعف الإفتراضات الأساسية عن الطبيعة الجوهرية للأشياء بدون سبب”،و هو يعني أن نحدف كل إفتراض زائد (4).
* مراجع و هوامش :
1 – http://alfetn.net/vb3/showthread.php?t=28976 أنظر أيضاً جريدة هيسبريس http://www.hespress.com/permalink/19802.html
2 – هناك كتاب بنفس العنوان لكاتب أمريكي إسمه william kampble جاء كرد على كتاب “موريس بوكاي” سنة (1989).
3 – لمصطفى زرهار كتاب بعنوان “مقارابات في دراسة النص التوراتي”
4 – إعتمدنا بعض المداخيل البحثية التي جاءت بكتاب وليم كامبل william kampble “القرأن و التوراة و الإنجيل في نور التاريخ و العلم”.
محمد سعيد
عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى
medzaou22@gmail.com