رداً على عبد العزيز أفتاتي بخصوص مطلب حرية المعتقد
قال عبد العزيز أفتاتي في الحوار الذي أجراه معه موقع “الأول” الإلكتروني يوم (الأربعاء 21 دجنبر 2016) بخصوص دعوة المسيحيين للتنصيص على حرية المعتقد وإقامة شعائرهم اللوترجية علنا واحتفالهم بأعياد الميلاد يوم 25 دجنبر من كل سنة :”إن دعاوى هؤلاء المسيحيين المغاربة هامشية بالقياس إلى ما يوجد داخل المجتمع، حيث لا جدوى من تضمينه دستوريا خصوصا وأن المجتمعَ المغربي مجتمعٌ منفتح”، ويسترسل قائلاً :”إن القانون تؤطره قناعات وقيم وثقافة مجتمعية عامة معينة، بحيث لا يمكن للأمور الهامشية أن تؤطره، كما أنه من الخطأ أن نعالج كل شيء بالقانون، وعلى أصحاب دعوات التنصيص على حرية المعتقد في الدستور أن يستفيدوا من الانفتاح المجتمعي الحاصل والإنكباب على الحوار، عوض الإصرار على القانون الذي يصبح استفزازا لشرائح واسعة داخل المجتمع” – فما معنى هذا الكلام “دعوة المسيحيين دعوة هامشية” ؟
التجلي الأوضح للهامشية عند أفتاتي وغيره هو عندما يضطر للاعتراف بك ككيان موجود تقض مضجعه، لذلك يدعو دعوتك بـ”الهامشية”، إن فهم عبد العزيز أفتاتي لهاته الدعوة،هو فهم ذاتي تشكله حواسه غير القابلة للأخر،فهو يعبر عن قبيلته السياسية فقد سبق وكتب “ليوستراوس” أحد ناشري كتاب “تاريخ الفلسفة السياسية” سنة 1963 – منشورات جامعة شيكاغو – موضَحا أن منطق السياسة الحديثة مَر من ثلاثة مراحل،سماها ب”الموجات الثلاثية”.
أولاها،عندما اكتشفنا مع مكافيلي أن الدولة إناء ليس أخلاقي بالضرورة و لكن يسعى لتخليق الحياة الفاسدة أخلاقيا التي يغرق فيها المجتمع،و ثانيهما عندما اكتشفنا مع “هوبز” أن غاية غايات الدولة هو حفظ حياة المجتمع،و ثالثها عندما اكتشفنا مع روسو أن “خيرية” الغايات السياسية تأتي من كون هذه الغايات ناتجة عن إرادة المجتمع في مجمله.
ينبغي أن تتعلم الحركة الحقوقية التي أؤمن بأنها قدر المغرب في تحقيق حرية المعتقد على أرض الواقع،فمن هذه الموجات الثلاثة ما يلي :
أولاً : لنتعلم مما راكمته التجربة الإنسانية منذ قرون،ينبغي أن تبقى غايات الحركة الحقوقية و أساس مشروعية نضالها أخلاقي (استرجاع المسلوب)،لكن أسلوب نضالها ينبغي أن يكون برغماتيا و ليس انتهازيا مشدودا بشكل دائم للغاية الأخلاقية،فحرية المعتقد غاية أخلاقية لذلك نطالب بترسيمها دستوريا.
ثانياً : ينبغي أن تطور الحركة الحقوقية نضالها إلى مستوى بناء المشروع المجتمعي الذي يبني المجتمع و يحفظ بقاءه،إذا لم تصغ هذا المشروع المجتمعي و لم تكتسب دًرية في أساليب تحقيقه،فستبقى بعيدة عن مطلب أساسي في ما تتحقق به الدولة بمعناها المعاصر.
ثالثاً : ينبغي أن تسعى الحركة الحقوقية إلي بث وعي حقوقي في المجتمع يجعل من مطلب استرجاع المسلوب “خيرا” اجتماعيا يجمع عليه الجزء الأعظم من المجتمع المغربي.
إن الخطاب السياسي الذي حاول عبد العزيز أفتاتي أن يوجهه يتناقض مع هاته الموجات الثلاثة مهما كانت جاذبيته للأتباع،فالإيديولوجية المبررة له مهما كان انسجامها وآليات خداعها،تبقى مجرد تَمْثيلات خطابية يتلاشى تأثيرها بمجرَد أن يدرك المجتمع خوائها،فلتاريخ منطق يُقصي كل أداء سياسي مناطه خطابه و ليس شيء آخر غير خطابه، فدسترة “حرية المعتقد” هي المشروعية التي تكتسبها عندما لا يقصيك التاريخ لهذا السبب.
إن كلام عبد العزيز أفتاتي يبدوا جميلاً لقبيلته و طائفته من المعترضين على ترسيم حرية المعتقد بالدستور…عندي ملاحظتان على هذا الكلام الإنشائي الذي قاله هذا البرلماني المؤدلج :
الملاحظة الأولى : أليست التعددية مطلب دستوري و حقوقي و فكرتها أدخلت لأول مرة من خلال مرجعية أكادير التي وقعت عليها مجموعة من الجمعيات (خمسة جمعيات) الكبيرة في غشت 1991 ؟..هل كان أفتاتي و غيره يجرأ أن يتحدث عن”التعددية” و الانفتاح المجتمعي في ذلك الوقت ؟ خطاب الإقصاء هو الخطاب الذي كان و لا يزال يسعى إلى اعتبار المجتمع المغربي له قناعات عامة قسرا بواسطة إديولوجية الجنجويد الميتة، فأفتاتي و أمثاله ينكرون حرية المعتقد نهارا و يؤسسون لها ليلاً كما في وثيقتهم الداخلية في مؤتمرهم الأخير.
الملاحظة الثانية : إذا كان عبد العزيز أفتاتي يعتبر المجتمع المغربي فيه تعددية حقا و متسامح – فلماذا لم أقرأ له يوما ما يدل على إيمانه بالتعددية كدعوة إلى تطبيق مقتضياتها من داخل الدستور الرسمي ؟ حرية المعتقد يجب أن تحمى بالدستور و القانون و السياسات العمومية،لا بمجرد استغلال الشعارات للتهجم على المخالفين لما يراد أن يكون له الدين الواحد.
فعبد العزيز أفتاتي و غيره من السياسيين، يعبرون بمثل هاته التصريحات عن “الفكر العاجز” الذي يعجز عن مواجهة ما يناقضه من أفكار بشكل مباشر و يلجأ بدل هذه المواجهة لاستعمال استراتيجيات التحصن الذاتي الإنهزامي…من استراتيجيات التحصن الذاتي الانهزامي التي يستعملها الفكر العاجز أن يُعيب الأفكار و المقترحات التي يعجز عن مواجهتها بمجمل الكلام،كأن يقول كما قال أفتاتي عن دعوة المسيحيين بأنها “هامشية”،فلا يصح مثل هذا الاعتراض إلا إذا بين صاحبه على وجه التحديد ما يعيب هاته الدعوة الحقوقية التي سماها ب”الهامشية”،أو ما كان سيكسبه كلام المخالف لو أن كلامه اتصل بالواقع حسب تعبيره..
إن الفكر العاجز يبحث دائما عن ذريعة للهروب من أمام الفكر المخالف،إن المعترض عن ترسيم حرية المعتقد دستوريا، يمثل هذا الفكر العاجز،و يمكننا أن نسميه بالفكر الأعمى أيضاً – فما هو الفكر الأعمى ؟ الفكر الأعمى هو الذي لا يرى إلا ما يراه الغوغائيون،فلا يستطيع إلا أن يعيد إنتاج كلامهم،و أفكارهم بكلمات مطرَزة منمقة،لذلك فالفكر الأعمى الذي يمثله عبد العزيز أفتاتي و غيره أقدر من غيره على حشد الجماهير وتجيشها…لكن الأعمى عندما يقود الأعمى يسقطان معا في حفرة.
فهذا الفكر هو سمة الإسلام السياسي عندنا،و هو فكر يفترض بأن لا نفع يرجى من الإنصات إلى المخالف،لأن هذا المخالف غير قادر على الإتيان بالجديد المفيد،لذلك فالإنسان الأعمى أو المنغلق يجمع في شخصيته بين التكبر (ما يحتمله موقفه من احتقار المخالف) و الأنانية (بما يحتمله موقفه من تمركز على الذات) و كثرة الوهم (بما يحتمله موقفه من سوء تقدير لما يقدر المخالف أن يأتي به)…فموقف أفتاتي من المسيحيين المغاربة يمثل الفكر المنغلق، وهو موقف إنتحاري !
محمد سعيد: عضو المكتب التنفيذي لمكتب الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى