دفاعا عن المسيحية وليس دفاعاً عن التنصير
محمد سعيد
مخطئ من يعتقد أن التنصير له علاقة بالمسيحية، بل إن هذا المصطلح راجع للأدبيات الفقهية الإسلامية، فهذه الأخيرة هي صاحبة هذا المصطلح، ولا علاقة له بتاتاً بالكتابات المسيحية سواء الإنجيلية منها أو “اللوترجية” (التعاليم)، فالعقائد تأخذ من النص المؤسس لعقيدة ما، ولا تأخذ من أفواه التجار الدينيين المحسوبين عن المسيحية والتي هي براءة منهم كبراءة يوسف من دم الذئب، لكن هناك مصطلح مسيحي له قواعده و نظمه وهو “التبشير المسيحي”، وهذا هو ما نعرفه.
فأنا أبشرك، فهذا يعني أنني أقول لك أن المسيح أعطاك الفداء إذا كنت تريد إستقباله والإيمان به، فالتبشير ليست له غاية سياسية أو إديولوجية، التبشير يعرض مفهومه للمسيحية فقط، فهو الأجدى أن يعرف بها أما التنصير فهو شأن أخر، وله أبعاده المعلنة وغير المعلنة، وهو مرتبط بصراع ديني بعد بزوغ الإسلام، واليوم يتخذ شبه صراع سياسي بين القوى الغربية ودول العالم المدعو بالإسلامي.
تطرح قضية التنصير في المغرب العديد من التساؤلات، إذ مرة تلو الأخرى نسمع عن خبر إعتقال بعض “المبشرين” بالعقيدة المسيحية، وفي حقيقة الأمر هذا لا يعدوا سوى هروب من الحقيقة التالية، وهو عجز الدولة بكل وسائلها أن تحارب المسيحيين المغاربة الحقيقيين والذين يقضون مضجعها بإعتقاداتهم، فتدعي بوسائطها الإعلامية أنها تحارب التنصير مع العلم أن التنصير ليست له علاقة بالمسيحية، والمفروض أن تقر أنها تحارب المعتقدات المسيحية التي تكشف عجزها المفاهيمي وعجز صناع المقدسات عندها عن مجابهة الفكر المسيحي بالعلم والحجة، فتضطر إلى خلق بالونات إعلامية مرة تلو المرة لتغطية المستور، وهو أن المغاربة ليست لهم عقيدة وحيدة معينة، بل إنهم متفرقوا المعتقدات والأفكار والنُحل، فالمقاربة الأمنية هي من أجل محاربة الجنح والجريمة وليست لمحاربة الأفكار والتجسس على أصحابها، فالدولة المغربية تحاول أن تخلق استراتيجية لحصار الإختراق الديني، تجاه ماتدعوه بـ”الأمن الروحي للمغاربة” وهذا إنما يعكس عدم نضجها وفراغها العلمي والتربوي الذي لا يحقق أرضية الإختلاف التي تتساكن فيها كل المعتقدات والأديان، إنه تجلي يعبر عن أزمة بنيوية و مجتمعية في مجال صناعة الشخصية التربوية والثقافية للإنسان المغربي، ففي هذا السياق نتساءل عن سبب غياب الدراسات العلمية في مجال تحليل الخطاب المسيحي، سواء من زاوية ألياته اللاهوتية أو أدواته المستعملة في فعل المجتمعات، فإننا نتساءل كباحثين عن سر هذا الغياب، هل يعود إلى ضعف الإهتمام بالمشاريع العلمية في مجال البحث الميداني أم يعود إلى غياب التوجيه الأكاديمي للباحثين، أم أصلاً في الرغبة السياسية في عدم تضخيم هذا الملف لحساسيته، سواء على مستوى إمكانية إستغلاله من قبل المُنظمات الحقوقية الدولية المُدافعة عن حقوق الأقليات الدينية، أو على مستوى التوظيف السياسي لمثل هذه الأقليات لتشويه صورة المغرب.
فالخطاب المسيحي يحضر كخطاب روحي رسالي وليس سياسي، بل إنه يخاطب الناس بإسم الخلاص الروحي والطهارة الإيمانية والإرتباط بعالم المقدس، وهو أيضاً خطاب يخاطب العقول ولا يخاطب البطون على حد تعبير وزير العدل والحريات مصطفى الرميد.
لكن للأسف الشديد، فإن عدم الوعي بآليات إشتغاله يدفع الدولة لمواجهته على المستوى الأمني، وهذا خطأ فادح، فالمواجهة الحقيقية تبقى معطلة ونعني بها المواجهة العلمية والفكرية، والتي مفادها فتح الحوار والتوعية العامة، من خلال صناعة خطاب واضح المعالم يربي النشء على أساس التسامح والحق في الإختلاف.
ويكفي للإنسان اليوم أن يفتح القنوات المسيحية ليقتنع بأن جزءا من أدوات خطابها المسيحي إنما يعتمد على نقد التيارات المتطرفة الغارقة في الدماء والكراهية الدينية والحقد الديني على العالم، فهذا الخطاب ليس تنصيرياً ولن يكون، بل هو خطاب يكشف الزيف ويفضح الكذب، ويشهد أيائل الجبال بأن المسيحية ضوء في ظلام دامس.
هناك خوف من التبشير المسيحي بالمغرب، فقد تكلم أحمد عصيد يوم (السبت/الأحد 16/17 مارس 2013) بجريدة الصباح عن خوف الدولة المغربية من التبشير المسيحي، والذي يدعوه المحافظون بالتنصير المسيحي، مستعرضا عدم وضوح الدستور المغربي في شأن حرية الإعتقاد لدى المغاربة، وإستعمال السلطة لكل الوسائل الغير قانونية للإستحواذ على الحقل الديني وإعطاء مسوغات و مبررات لامنطقية لتكييف المجتمع على نمط من التدين، إذ سبق لأحمد الريسوني عضو حركة التوحيد والإصلاح أن أعلن أنه ليس هناك مانع من التبشير المسيحي بالمغرب عندما حاصرته الصحافة سابقاً، في دعوة إلى التكفير عن ما بدر منه أثناء صياغة الدستور المغربي من “أن فتح المجال لحرية الإعتقاد قد يضع إمارة المؤمنيين في خطر،لأنها لن تجد مؤمنيين تحكمهم”، وقد أشار أيضا أحمد عصيد إلى الفقرة 220 من القانون الجنائي التي تتكلم عن زعزعة عقيدة مسلم، مفككاً سذاجة هذه الفقرة بخصوص حرية الإعتقاد، إذ كيف يتزعزع شخص ما إذا كان راسخاَ في ما يؤمن به ؟ فهل نعتبر التبشير الإسلامي زعزعة أيضاً لمن لا يدين بالإسلام أصلاً ؟؟
فهل يعاقب اليهودي على يهوديته والمسيحي على مسيحيته لأنه لا يدين بدين الدولة ؟
فهل كوني أنا شخصياً غير المسلم أستحق أن تدينني هاته الفقرة لأنني زعزعت نفسي ؟؟
نحن نفتقد للحرية، نعيش إضطرابا، الأطفال يشعرون به ويعبرون عنه بلغتهم، إعاقتنا هي الخوف من الحرية – هل تهدد حرية الفرد الدولة المغربية ؟ هل إذا رفض مواطن أو مواطنة جانباً من جوانب الدستور، فإن الدولة ستضعف ؟
إن الدولة تخفي هشاشتها بمرجعيات دينية، وهذا ما يجعلها لا تتسامح مع المسيحيين مثلاً، فما دمنا لم نفصل بين الدين والحقل السياسي فإننا لن نستطيع التقدم، وهذا الفصل لا يعني الإلغاء، فالعلمانية تعني بالدرجة الأولى إحترام الدين والتدين، وهي حق الفرد في ممارسة ديانته إذا أراد دونما فرض ممارستها على الأخر،المؤمن يعيش في صلة مباشرة مع من يتوجه له بالعبادة أي كان هذا المعبود، وهو المسؤول الوحيد عن أفعاله،هذا هو المقصود بمفهوم “الحرية”، وهي قاعدة وحق ثابت لكل فرد، ولكن ما يحاول رجال الدين والقانون فرضه هو توجيه خطوات كل واحد من أفراد المجتمع ومحاصرته بما يقدم له من إرث ديني حسب الجغرافيا وليس الإيمان.
نحن لم نتعود على النقاش على التعارض في الرأي، على الحوار المشبع بالإثباتات، نحن نعيش مرحلة حيث البعض يعتقد أن مشاكلنا ستحل بالعودة إلى الدين، الدين يلعب دورا ما، الإنسان بحاجة إليه، فهو ليس مطالباً بأن يدير له ظهره، بل فقط أن يمارسه في صمت، مادمنا لم نفتح نقاشا عن مكانة الدين في حياة المجتمع فسنظل نتجنب طرح الإشكالات الحقيقية والتقدم نحو العصر بخطوات مسؤولة، يجب فتح حوار ونقاش حقيقي حول التبشير بالمغرب، فهناك مسيحييون عديدون يمارسون طقوسهم في صمت وعلى الدولة أن تجد حل لهؤلاء المغاربة الذين اختاروا بمحض إرادتهم ما يؤمنون به، فلا داعي للإمساك اليوم بمفهوم الهوية الدينية الواحدة في ظل غزارة المعرفة وقرب المعلومة، لا يمكن اجتثاث إيمان ما بالمقاربة الأمنية.
فلا يمكننا القول اليوم أن المغرب لا يسمح بالتبشير لديانات أخرى غير الإسلام،كما قال الحسن الثاني إثر محاكمة أعضاء الطائفة البهائية سنة (1962)، فلا وجود لأي نص قانوني يدين من غير معتقده و لن يوجد أيضاً،ولما تحدث الحسن الثاني لصحفين أجانب فإنه أحرج و أعطى أمره للعفو عن البهائيين، مما زاد لهيب التوتر بين اكديرة المستشار الملكي وحزب الاستقلال، وطلب فيما بعد ثلاثة وزراء استقلاليين إعفائهم من مهامهم، بمن فيهم علال الفاسي الذي استقال من الوزارة وصار أستاذا جامعيا، حسب ما يؤكده المؤرخ عبد الرحيم الورديغي، الذي يضيف أن استقالة زعيم الإستقلال أدت إلى سقوط الحزب من الحكومة، وانضمامه إلى المعارضة المناهضة للقصر.
وأخيراً أختم بالقول، أن الإيمان أو عدم الإيمان شأن يخصني فلا تقسه، لأنك عندما تقسه تضع بيني وبينك حدود دم لا تغتفر…