تحقيق… الوجه الخفي للنعماني قاتل بنجلون
ارتبط تاريخ عبد العزيز النعماني، بما سمي التنظيم الخاص لحركة «الشبيبة الإسلامية»، وتردد اسمه كثيرا في التحقيق مع المتهمين على خلفية اغتيال
الزعيم الاتحادي عمر بنجلون، وقد كان يشار إليه دائما، بصفته المسؤول الأول عن هذه الجريمة السياسية، وهو المعطى الذي أكدته الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة الاستئناف بالبيضاء في اغتيال بنجلون. مسار عبد العزيز النعماني وسط غابة التنظيمات الإسلامية المقاتلة، خلال النصف الثاني من القرن 20، مليء بالألغاز من جهة، والتناقضات من جهة ثانية، فبين من يتهمه بالعمالة للأجهزة الأمنية، كما كما هو الحال بالنسبة لحركة «الشبيبة الإسلامية»، ومن يعتبره «شهيدا وبطلا» مثل «حركة المجاهدين المغاربة»، التي أسسها النعماني سنة 1978. وبين هؤلاء وأولئك تضيع ملامح وتفاصيل مسار النعماني. بعد فراره خارج أرض الوطن وانفصاله عن عبد الكريم مطيع. ظلت شخصية النعماني دائما لغزا في تاريخ الحركات الأصولية بالمغرب، إذ مازالت حقيقة ارتباطه بالشبيبة الإسلامية لم تكشف بعد، وهي الحقيقة، التي تشكل اليوم في حال الكشف عنها، مفتاح حل ملف حركة عبد الكريم مطيع، الفار من العدالة واللاجئ السياسي» في لندن التي قدم إليها من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، كما تشكل إضاءة للعديد من نقط العتمة في التاريخ المعاصر للحركة الإسلامية بالمغرب. بالرغم من أن «الشبيبة الإسلامية» ظلت تنفي ارتباط النعماني بها، كما تؤكد ذلك وثيقة صادرة عنها، ننشر جزء منها في هذا التحقيق، إلا أن هناك شبه إجماع على التشكيك في رواية تنظيم مطيع. يقول عبد الله الرامي، الباحث في الجماعات الإسلامية، أن نفي «الشبيبة» المتواصل لعلاقتها مع مطيع مرده إلى أنها تريد أن ترفع عن نفسها تهمة القتل، مادام أن النعماني هو المتهم الرئيسي بقتل بنجلون، وبالتالي ليس من سبيل لتخليص الحركة من التهمة الجنائية سوى النفي لصلة النعماني بالشبيبة الإسلامية…النفي ثم النفي حتى يصدق الجميع ذلك. وفي واقع الحال فإن النفي لا يصمد أمام العديد من الشواهد المتعددة والدالة على انتساب النعماني للحركة وتصدره موقعا قياديا في صفوفها». في هذا الملف، تعود «المساء» إلى حياة مؤسس أول تيار دينيّ مسلح في المغرب، وتنشر معطيات غير مسبوقة عن طفولته، دراسته ومراهقته، وكيف تم استقطابه إلى تنظيم «الشبيبة الإسلامية»، وتجيب عن السؤال الكامن وراء سر تكليفه من طرف مطيع بقيادة التنظيم الخاص لأول تنظيم إسلامّي أسس في المغرب، وصولا إلى فراه خارج المغرب وتأسيسه لتنظيم «مقاتل»، هو «حركة المجاهدين المغاربة»، ثم انتهاء بمقتله الغامض في فرنسا. بالنسبة إلى محمد النكاوي، الذي خلف النعماني على رأس «حركة المجاهدين المغاربة»، والذي يقبع حاليا بالسجن المحلي لطنجة، فإن النعماني «مفترًى عليه، وهو الرجل المحور، الذي ظلت صفحات سيرته غائبة في وجدان الحركة الإسلامية في المغرب، كما هي غائبة في صفحات زمن الجمر والرصاص.. النعماني، الذي قتل غدرا بتواطؤ استخباراتيّ محلي ودعم إقليميّ صليبي وبالاعتماد على أدوات داخلية من بني جلدتنا».. هي ألغاز كثيرة تحيط حياته، تمكنت هيأة «الإنصاف والمصالحة» من فكّ بعض من رموزها، وأكدت أن عبد العزيز النعماني بقيّ في المغرب مدة طويلة بعد اغتيال عمر بنجلون إلى أن غادره من مطار النواصر. كما شدّد تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة»، الذي لم يسبق تعميمه، وتتوفر «المساء» حصريا على نسخة منه، على «أهمية الدور الذي لعبه عبد العزيز النعماني وعدم تقديمه للعدالة، رغم إخبار الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد من لدن السلطات العليا باعتقاله ووجود قرائن على تواجده في المغرب مدة طويلة بعد الجريمة». كما تنشر «المساء» وثيقة تؤكد التشطيب على الفقرة الأولى من خلاصات الهيأة حول ملابسات عملية اغتيال عمر بنجلون، إذ تشير النسخة الأولى للخلاصات، كما تشير إلى ذلك وثيقة تنشر «المساء» نسخة منها، إلى أن «الهيئة ارتأت ثبوت تورّط جهاز أمني سريّ في اغتيال عمر بنجلون وقيام مسؤولية الدولة عن ذلك». أما الفقرة الثانية، التي عوّضت الجملة المشطب عليها، فتتحدّث عن «تدخل الدولة في سير القضاء، وبالتالي مسؤوليتها على الاختلالات التي شابت إجراء التحقيق والحكم على المتهمين». أين كان عبد العزيز النعماني مختبئا، إذن، طيلة المدة الفاصلة بين اغتيال عمر بنجلون وهروبه من المغرب؟ وكيف تمكن من الفرار خارج البلاد، بعد ذلك، دون أن تطاله أجهزة الأمن؟ هل أصبحت للنعماني سلطة أقوى وأكبر من سلطة عبد الكريم مطيع؟ هل كان النعماني يتوفر على غطاء سياسيّ أنقذه من الاعتقال والمحاكمة وسهّل هروبه خارج المغرب؟ كيف تم اغتيال النعماني في فرنسا؟ وما هي ملابسات وتفاصيل هذه العملية؟ ومن هي الجهة المستفيدة منها؟. هذا ما سيعمل على التحقيق على تقفيه.
أسَّس أول تنظيم مسلح يتخذ من الدين مرجعية وحيدة لتبرير مواقفه، وغادر المغرب في ظروف أقلّ ما يقال عنها إنها «غامضة»، بعد اتهامه في الضلوع المباشر في
اغتيال عمر بنجلون. كما نسج علاقات تشوبها العديد من نقط الإبهام مع دول لم تكن علاقاتها على ما يرام مع المغرب، خصوصا الجزائر وإيران.. تعرَّف على عبد القادر بليرج في فرنسا عن طريق أحد أعضاء حركته المسلحة التي أسسها في الخارج. كما اتهمته هيأة الإنصاف والمصالحة ب»نسج علاقة مع جهاز أمنيّ» معين. ظلت شخصيته على الدذوام لغزا في تاريخ الحركات الأصولية المتطرفة.. يتعلق الأمر بعبد العزيز النعماني، الذي ما زالت حقيقة ارتباطه بالشبيبة الإسلامية لم تُكشَف بعد، وهي الحقيقة، التي تشكل اليوم، في حال الكشف عنها، مفتاح حل ملف حركة عبد الكريم مطيع، الفار من العدالة واللاجئ السياسي المغربي في لندن، التي قدِم إليها من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، وإضاءة للعديد من نقط العتمة في التاريخ المغربيّ المعاصر.. في هذا التحقيق نعيد تركيب القصتين المتصلتين معا، قصة تأسيس حركة المجاهدين المغاربة وقصة عبد العزيز النعماني.
هل هربته الاستخبارات ثم قتلته بعد أن أخبر الحسن الثاني بوعبيد باعتقاله؟
كان يجب أن ننتظر إلى حدود سنة 2012، وتحديدا شهر ماي الماضي، لكي نتعرف على حقيقة اغتيال قائد أول تيار دينيّ مسلح في المغرب. كان علينا أن ننتظر 31 سنة، لكي نكتشف أن عبد العزيز النعماني، حسب الرواية الأمنية، اغتيل على يد صهرَيه حمزة وخالد الصاوي سنة 1984، بدافع الانتقام، في حادث شهدته مدينة أفينيون الفرنسية.. ظلت حياة النعماني، كما مماته، متّسمة بكثير من الغموض، وشكّلت لغزا كبيرا في تاريخ الحركات الأصولية المغربية التي تبنّت العنف وبرّرته. هو عميل الأجهزة الأمنية، تقول الحركة الأم «الشبيبة الإسلامية» وزعيمها عبد الكريم مطيع، ويعضد هذا الطرحَ تقريرُ هيئة الإنصاف والمصالحة، الذي أكد «وجود قرائن قوية على ارتباط النعماني بجهاز أمنيّ». هو المتورط رقم 1 في عملية اغتيال عمر بنجلون بالنسبة إلى العائلة الاتحادية واليسارية في المغرب، وهو «القائد الفذ والشهيد» لدى أبناء «حركة المجاهدين المغاربة».. باختصار، هناك مواقف متناقضة بشأن النعماني، الذي يظل شخصية تحوم حولها قصص وحكايات على قدْر كبير من الغموض والسرية والالتباس المثير للريبة، فصورته الشخصية غير متوفرة، ولم يسبق نشرها في وسائل الإعلام، وينكر أصدقائه، كما خصومه، توفرهم عليها..
من يكون النعماني، إذن؟ تفتح الإجابة عن هذا السؤال الباب على مصراعيه لكشف حقيقة العديد من الأحداث السياسية التي شهدها المغرب، بدءا من تحديد هوية مدبري عملية اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بنجلون، وصولا إلى رفع بعض الغموض عن كثير من المحطات في تاريخ الحركة الإسلامية المغربية وانشقاق تيارات تبنّت العنف منهجاً للتغيير، إضافة إلى جزء غير يسير من علاقة عبد القادر بليرج، المعتقل بتهمة الإرهاب، بمجموعة من أبناء وقدماء «الشبيبة الإسلامية»، لذلك فحياة عبد العزيز النعماني تعدّ بمثابة العلبة السوداء لجزء كبير عن أعضاء الحركة الإسلامية في المغرب. فمن هو عبد العزيز النعماني؟
النعماني.. طفولة رجل غامض
في يوم 4 مارس سنة 1952، أطلق عبد العزيز النعماني صرخة خروجه الأولى إلى الحياة في أحد منازل حي بوشنتوف في العاصمة الاقتصادية للمملكة، وسط أسرة متوسطة العدد والدخل. كان أبوه، لحسن بن إبراهيم النعماني، تاجرا ل«صْواني» المعدن والفضّة في قيسارية «الحفاري». فيما اهتمّت أمه، خدوج بنت أحمد، بتربية عبد العزيز وإخوته السبعة، منهم أختان توفيّت إحداهما. حاولت «المساء» الاتصال بإخوة عبد العزيز النعماني، الذين منهم الكولونيل في القوات المسلحة الملكية، ومنهم الأستاذ، والإطار في المكتب الوطني للكهرباء والمهاجر السابق في إيطاليا.. لكنهم آثروا الاعتصام بالصّمت ومسحَ ذكرى أخ ذي شخصية ملتبسة ومتلبسة بما لا يحصى من الأفعال الخارجة عن القانون.. لذلك لجأنا إلى شخصين عاشا على مرمى حجر من عبد العزيز النعماني، التمسا عدم تحديد هويتهما. سوف نشير إلى الأول، كما طلب، ب»ولد الدّرب»، وإلى الثاني ب«زميل الدراسة». حكى «ولد الدرب» ل«المساء» كيف أن طفولة عبد العزيز النعماني ومراهقته كانتا دالتين على الشخصية التي اكتسبها لاحقا: «في المرحلة الابتدائية كان عبد العزيز يدرس في المدرسة المحمدية، قبل أن يلتحق بثانوية الأزهر، التي يدرس فيها المُعرَّبون فقط، بخلاف ثانوية مولاي عبد الله، التي كان التكوين فيها مزدوجَ اللغة: العربية والفرنسية».. يثير صديق طفولة النعماني «ولد الدرب» الانتباهَ إلى أمر في غاية الأهمية، قال إنه كان له دور كبير في تشكل شخصية النعماني المراهق ووعيه السياسي: «كان تلامذة ثانوية الأزهر يُحسّون بالدونية مقارنة مع أقرانهم الذين كانوا يتابعون دراستهم في مؤسسات يكون التكوين فيها مزدوجا، بالعربية والفرنسية»، ثم تابع قائلا: «كان تلامذة ثانوية الأزهر المُعرَّبة محط سخرية من طرف أقرانهم الذين كانوا يدرسون في مؤسسة «مفرنسة» مثل ثانوية مولاي عبد الله.. لقد كانت شخصية النعماني المندفعة، إلى حدّ التهور أحيانا، وراء لفت انتباه عبد الكريم مطيع إليه، وهكذا استقطبه، مع ثلة من زملائه في ثانوية «الأزهر»، إلى جمعية الشبيبة الإسلامية». خلال هذه الفترة، كما يحكي أحد زملاء النعماني في ثانوية الأزهر «ركز مطيع على تلاميذ مؤسسة الأزهر بحكم سهولة استقطابهم، بخلاف تلاميذ ثانوية مولاي عبد الله، المتأثرين بالثقافة الفرنسية، والذين كانوا يتوفرون على منطق آخر في تحليل المعطيات ومناقشة الأفكار». في هذه المرحلة استغلّ مطيع موقعه كمفتش في وزارة التعليم لدعم حضور النعماني و»إخوانه» وسط ثانوية الأزهر، خصوصا لمجابهة بعض أساتذة الفلسفة الذين كانوا يدْعُون إلى إعمال العقل في تحليل أي خطاب. «حين انضمّ النعماني وغيره من تلاميذ «الأزهر» إلى الشبيبة الإسلامية، أصبح مطيع يزورهم في الثانوية ويسلم عليهم بحرارة ويخوض معهم في نقاشات على مرأى الجميع، وهذا كان يُدخل الريبة إلى قلوب الأساتذة، الذين لم يستوعبوا أن تربط تلامذتَهم علاقة قوية بمفتش من حجم عبد الكريم مطيع»، يشير أحد زملاء النعماني في ثانوية «الأزهر». أما زميل دراسة عبد العزيز النعماني خلال المرحلة الثانوية فيؤكد أن اندفاع مؤسس «حركة المجاهدين المغاربة» كان يظهر بشكل جليّ، مثلا، خلال ممارسته هوايتَه المفضلة كرة القدم في ملعب «لارميطاج»، المعروف لدى أبناء الحي بملعب «الشيلي»، إضافة إلى «دخوله في ملاسنات عديدة مع أساتذته.. لقد كانت إدارة الثانوية تنظر إلى النعماني باعتباره عنصرا مشوّشا ومثير للفتنة»، وقد «كان النعماني -يضيف زميل الدراسة- يتلقى العديد من الإنذارات بسبب إصراره على توزيع منشورات «الشبيبة الإسلامية» داخل المؤسسة، وأيضا بسبب دخوله في مناوشات مع الأساتذة». يتذكر زميل الدراسة واقعة دخول النعماني في شجار مع عبد الله تغزري، أستاذ مادة الفلسفة في الثانوية، ذي الميولات الشيوعية، الذي ظل النعماني يستفزه بإثارة مجموعة من الأسئلة عن موقف الأستاذ من الإسلام، بمناسبة أو بدونها.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان النعماني و»إخوانه» التلاميذ، وفق المصدر نفسه، يُهدّدون التلاميذ ذوي الميولات اليسارية ويعتدون عليهم جسديا في العديد من المرات. يعلق المصدر زميل الدراسة: «لقد كان عبد العزيز عنيفا حتى في حديثه، سريعَ الغضب وكان يرغي ويزبد في وجه من يخالفه الرأي، فيتطاير اللعاب من فمه».. يطأطئ زميل الدراسة رأسه، كما لو كان يتهيأ للبوح بسر خطير، ثم يضيف: «كانت شدة الانفعال والتشنج تصل بعبد العزيز، أحيانا، إلى أن يسبّ الرب، والعياذ بالله».. كانت شخصية عبد العزيز النعماني، المتشنجة و«العصابية» تؤدي، مرارا، إلى نتائج عكسية في استقطاب شباب جدد إلى «الشبيبة الإسلامية». يتذكر «ولد الدرب» واقعة حدثت له مع النعماني: «كنت مارا في الزنقة 39 في حي بوشنتوف، أمام محل عبد القادر مولْ الزّيتونْ، أحد نشطاء «الشبيبة الإسلامية»، فنادى عليّ السي عبد القادر مول الزيتون وناولني كتابا لسيد قطب عنوانه «المستقبل لهذا الدين»، طالبا مني قراءته.. صادف ذلك أنني كنت أمسك سيجارة بيدي، وهو أمر لم يزعج مول الزيتون، الذي أمدّني بالكتاب. سرتُ وأنا في اتجاه محطة الحافلات أتصفح الكتاب لأفاجأ بعبد العزيز النعماني يخطف الكتاب من بين يديّ بعنف، وهو يرغي ويزبد: «ما تشدّشْ كتاب سيد قطب وفيديك الكارّو».. يتوقف «ولد الدرب» ويعود صديق الدراسة: «كان عبد العزيز متواضعا في دراسته إلى درجة أن مجموعة من التلاميذ اجتازوا في مكانه امتحانات الباكالوريا، كل واحد في المادة المتفوق فيها، وهذا أمر كان معروفا في أوساط التلاميذ».. ورغم تواضع مستواه التعليمي فقد «شرع النعماني، مباشرة بعد التحاقه بصفوف حركة مطيع، في تنظيم دروس محو الأمية ولقاءات لتجويد القرآن وإلقاء دروس الوعظ والإرشاد»، يؤكد صديق الدراسة.
«العلم» تفتح صفحاتها للنعماني
سيفتح التحاق النعماني بصفوف «الشبيبة الإسلامية» وتكليفه بقيادة ما سميّ «الجناح السري للحركة» سنة 1970، المجال لتناسل الأسئلة المزعجة.. في هذا الصدد، يقول محمد النايت الفقيه، أحد القياديين السابقين في صفوف الشبيبة الإسلامية، في شهادة تاريخية منشورة في كتاب «ذاكرة الحركة الإسلامية»: «كان مما استورد مطيع من المشرق غير منهاج الإخوان المسلمين وأدبياتهم فكرة التنظيم الخاص، وقد أعجبته هذه الفكرة لسابقته في التنظيمات اليسارية، فكان سباقا إلى تنفيذها، وقد وجد ضالته في عبد العزيز النعماني، فكلفه بإنشاء خلية قوية ومُدرَّبة من أوساط العمل تنفذ بالحرف ما يطلب منها»، مشيرا إلى أنها كلفت بتأذيب اليساريين ومن أبرزهم عمر بنجلون، مدير «جريدة المحرر» انذاك. بالنسبة إلى أحد قدماء تنظيم «الشبيبة الإسلامية» -رفض ذكر اسمه- فإن «النعماني لا يعدو كونه «آلة كان عبد الكريم مطيع يتحكم فيها وشابا مغرَّراً به، لهذا يتحمل مطيع كامل المسؤولية في كل ما يتعلق بتفاصيل قصته». ويتابع القيادي السابق في الشبيبة الإسلامية، محمد النايت، قائلا: «كان مطيع يحدّث المقربين منه عن عمر بن جلون ويعتبره أخطرَ زعماء الاتحاد الاشتراكي، ونقل إلى خلية عبد العزيز النعماني الصورة نفسَها عنه وشحنهم شحنا حتى قاموا بما طلب منهم، كما صرحوا بذلك». ويعبّر عن الفكرة نفسها محمد ضريف، المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية في كتابه «الإسلاميون المغاربة»، إذ يعتبر أن «مطيع نهج نفس أسلوب «حسن البنا» في تأسيسه جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فالأخيرة كانت تتألف من جهاز دعويّ يختص في العمل التربويّ، يعمل في إطار الشرعية منذ تأسيسه سنة 1928، ومن جهاز جهاديّ، يترأسه عبد الرحمان السندي، يسمى التنظيم الخاص، ويعمل في إطار من السرية المطلقة».. ويثير المتخصص في الحركات الإسلامية الانتباه إلى أن نقل مطيع نموذجَ إخوان «حسن البنا» في مصر لا يعني أن «الشبيبة الإسلامية» كانت تتوفر على إمكانيات التنظيم الخاص ل«الإخوان المسلمين» نفسها. يحكي مصدرا «المساء»، اللذان عايشا النعماني في حي بوشنتوف، أنه في كل مرة كان يقرأ زاوية «حديث الجمعة» في جريدة «المحرر»، لكاتبها آنذاك عمر بنجلون، يردد: «هذا دمُه حلال»!.. وهناك حكاية أخرى رواها لنا مصدر موثوق، وهي أن الهاشمي الفيلالي، الذي كان مديرا لثانوية الأزهر قبل أن يصبح مستشارا للحسن الثاني، تدخَّل لدى جريدة «العلم» من أجل أن نشر مقال لإخوان النعماني على صفحات جريدة الاستقلاليين، للرد على مقال كان عمر بنجلون قد نشره وتناول فيه موضوع له علاقة بالدين الإسلاميّ..
الاختباء في بيت الخطيب
بعد اغتيال عمر بنجلون في دجنبر 1975، استطاع عبد الكريم مطيع مغادرة البلاد، عن طريق سبتة المحتلة، في
حين اعتُقِل أبراهيم كمال، نائب مطيع على رأس «الجناح الدعوي» ل«الشبيبة الإسلامية». بعد ذلك مباشرة، صدر بيان عن «تنظيم إسلاميّ» في مدريد تبنى عملية الاغتيال.. فمن يكون هذا التنظيم؟ «يرى البعض أن التنظيم الذي أصدر بيانا يتبنى فيه عملية اغتيال عمر بنجلون غيرُ موجود، وأن مطيع هو الذي كان وراء إصدار ذلك البيان، في محاولة منه لتضليل الرأي العامّ وإبعاد تهمة قتل ينجلون عنه»، يقول محمد ضريف ل«المساء»، ويضيف: «لقد أدى مقتل بنجلون إلى حدوث قطيعة بين السلطة السياسية القائمة والشبيبة الإسلامية». اغتيل عمر بنجلون في دجنبر 1975. فرّ عبد مطيع خارج المغرب في العام نفسه واعتُقِل نائبه إبراهيم كمال في يناير 1976. برّأته المحكمة من دم عمر بنجلون في شتنبر 1980. جرتْ مياه كثيرة تحت الجسر، وأشرقت شموس أضاءت غيرَ ما قليل من العتمات، لكنّ شخصا يأتي على ذكره الجميع، في محاضر الضابطة القضائية وأمام المحكمة، بقيّ لغزا: إنه عبد العزيز النعماني، الذي لم يُلقَ عليه القبض، أي لم تذكر شهادة سجين أو سجان أنه مر من أحد سجون المملكة، رغم أن الزعيم الاتحاديَّ الراحل عبد الرحيم بوعبيد كشف، خلال محاكمة منفذي جريمة اغتيال عمر بنجلون، أنّ الملك الحسن الثاني اتصل به وأخبره أن السلطات تمكنت من اعتقال مخطط اغتيال عمر بن جلون، المسمى عبد العزيز النعماني!.. أين كان عبد العزيز النعماني مختبئا، إذن، طيلة المدة الفاصلة بين اغتيال عمر بن جلون وهروبه من المغرب؟.. في منزل عبد الكريم الخطيب، تقول رواية أحد أبرز قدماء «الشبيبة الإسلامية» -التمس من «المساء» عدم ذكر اسمه- دون أن يقدم إجابات عن مصير النعماني ولا عن طريقة مغادرته المغرب. هل أصبحت للنعماني سلطة أقوى وأكبر من سلطة عبد الكريم مطيع؟ هل كان النعماني يتوفر على غطاء سياسيّ أنقذه من الاعتقال والمحاكمة وسهّل هروبه خارج المغرب؟ لماذا نفت البيانات الصادرة من السجن عن المتهمين باغتيال عمر بنجلون علاقة هؤلاء بعبد العزيز النعماني؟.. أسئلة حاول تقرير «داخليّ» لهيأة الإنصاف والمصالحة الإجابة عنها (هو تقرير حصلت عليه «المساء» بشكل خاص وتنفرد بنشر بعض المضامين والوثائق الواردة فيه) يشير التقرير إلى «موقف المتهمين المتغير.. في مراحل البحث والتحقيق والمحاكمة من الاعتراف أثناء البحث التمهيدي لدى الضابطة القضائية والاستنطاق التمهيدي لدى قاضي التحقيق، إلى نفي جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار في التحقيق التفصيليّ وأثناء المحاكمة»، كما يتحدث عن «اختفاء محاضر الشرطة القضائية المتضمنة لتصريحات المتهم إبراهيم كمال، والتي تفيد تورّط شخصيات عليا في اغتيال الضحية، وقد سبق لدفاع الطرف المدنيّ أن تسلم صورة من التقرير التركيبي الذي يشير إلى المحاضر المذكورة». وأنكر إبراهيم كمال، حسب محاضر الاستماع إليه بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، التي تتوفر «المساء» على نسخة منها، التهم المنسوبة إليه في استنطاقه الابتدائي وصرح بأنه عنصر عامل في جمعية الشبيبة الإسلامية التي يرأسها عبد الكريم مطيع، وأضاف أنه كان يشاهد عبد العزيز النعماني يتردد على مسجد الشافعي بدرب غلف، نافيا علاقته أو معرفته بباقي المتهمين. وكشف إبراهيم كمال بأنه رافق مطيع إلى غرناطة بتاريخ 21 دجنبر 1975 لحضور مؤتمر الجمعية الإسلامية ورجع عن طريق باب سبتة بتاريخ 23 دجنبر 1975 حيث ألقي عليه القبض في حين بقي مطيع بغرناطة قصد إنجاز المهمة التي كلفته بها الأمانة العامة للندوة العالمية للشباب التي يوجد مقرها بالرياض. ووفق إفادة شخص -فضّل عدم ذكر اسمه- في تقرير الهيأة، وكان في بداية السبعينيات من طلبة الشبيبة الإسلامية، المعارضين لتوجه عبد الكريم مطيع، بناء على معلومات حصل عليها من شخص قال إنه موثوق به، فإن «شخصية سياسية نقلت عبد الكريم مطيع وإبراهيم كمال إلى سبتة يومين أو ثلاثة أيام بعد اغتيال عمر بنجلون، قبل صدور الأمر باعتقالهما.. أما عبد العزيز النعماني فبقيّ في المغرب مدة طويلة، إلى أن غادره عبر مطار النواصر». كما خلص تقرير الهيأة إلى «اقتصار المحاكمة على مُنفّذي الجريمة»، وشدد على «أهمية الدور الذي لعبه عبد العزيز النعماني وعدم تقديمه للعدالة رغم إخبار الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، من لدن السلطات العليا، باعتقاله ووجود قرائن بتواجده في المغرب مدة طويلة بعد الجريمة ووجود قرائن قوية على ارتباط النعماني بجهاز أمنيّ، وقرائن على عدم إجراء تحقيق حياديّ حول خلفيات الجريمة وتحديد الجهات التي كانت وراء تنفيذها.. وتتمثل هذه القرائن في «رفض فتح تحقيق في موضوع اختفاء وثائق من الملف القضائيّ واعتقال عبد العزيز النعماني، إضافة إلى رفض استدعاء الشهود المطلوب الاستماع إليهم من لدن الطرف المدنيّ أمام المحكمة». الغامض في نسخة تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، التي لم يسبق تعميمها، وتتوفر عليها «المساء» حصريا، هو وجود فقرتين متناقضتين تم التشطيب على الفقرة الأولى التي تقول: «ارتأت (الهيئة) ثبوت تورّط جهاز أمنيّ سري في اغتيال عمر بنجلون وقيام مسؤولية الدولة عن ذلك».أما الفقرة الثانية، التي لم يتمَّ التشطيب عليها، فتتحدث عن «تدخل الدولة في سير القضاء، وبالتالي مسؤوليتها عن الاختلالات، التي شابت إجراء التحقيق والحكم على المتهمين». كما صرح عبد النبي الصمدي السريفي، أحد قدماء «الشبيبة الإسلامية»، أمام الهيأة، بأنه «بعد الاغتيال سجل النعماني نفسه في مدرسة الأساتذة في مكناس، ولما فطن رجال البوليس إلى ذلك اختفى عن الأنظار، ثم سافر إلى الخارج، وكان النعماني قد اتصل بي في طنجة قبيل اعتقالي سنة 1982، فاستفسرني رجال الأمن عنه وعن ملابسات مقابلته».
النعماني.. حقل الألغاز
اختفى النعماني عن الأنظار مباشرة بعد أن صدر الأمر بإلقاء القبض عليه ووزّعت السلطات الأمنية صوره على كل مراكزها الداخلية وفي الحدود، لكن النعماني نفسَه اجتاز مباراة الالتحاق بمركز تكوين الأساتذة سنة 1976 (حوالي سنة بعد اغتيال عمر بنجلون) وهذا يعني أن النعماني حصل على كل الوثائق الإدارية المطلوبة من السلطات المعنية.. وبما أن ملف المباراة يستوجب تسليم شهادة السوابق العدلية، فإنه كان مُطالَباً باللجوء إلى كوميسارية المعاريف في الدار البيضاء، المخولة ترابيا بتسليمه الوثيقة المطلوبة، والحال أنها هي نفسها المكلفة -ترابيا وأمنيا وسياسيا- بالقبض عليه!.. كما أن النعماني هذا دخل «سرا» إلى المغرب في بداية الثمانينيات من أجل حضور جنازة والده، وغادر البلاد بعد ذلك.. لهذه الأسباب تحوّلت قضية النعماني إلى واحدة من الألغاز الكبرى في تاريخ الاغتيال السياسيّ في المغرب المعاصر، مثلها مثل قضية اختطاف واغتيال المهدي بن بركة وغيرها من الجرائم السياسية التي حدثت في سنوات الجمر والرصاص. لذلك، ففي غياب عبد العزيز النعماني، الذي تؤكد العديد من الشهادات، الصادرة عن أشخاص مختلفين، تحريضه باستمرار على قتل عمر بنجلون، يبقى الوصول إلى الحقيقة بيد ثلاثة أطراف، هي: الطرف الأول: هم شهود تلك المرحلة وأغلب هؤلاء لم يتكلموا عن جميع التفاصيل، وعلى رأسهم مصطفى خزار، الذي أدين على خلفية تنفيذ عملية الاغتيال، الذي يُصرّ على أنه «ليست للشبيبة الإسلامية أي علاقة باغتيال بن جلون»، مع أنه «حتى إنْ نفى مسؤولية الشبيبة عن مقتل بنجلون فهو لا يستطيع أن ينفيّ صلة النعماني بالشبيبة وانتسابه إليها، وإن لم تكن الشبيبة مسؤولة مباشِرة فهي مسؤولة معنويا، على أقل تقدير، من خلال طبيعة الإيدولوجيا التي كانت تشحن عناصرها بها.. على كل، فهذا النفي لا يصمد أمام سيل الاتهامات المُتبادَلة، والتي تحمل اعترافات بمسؤولية الحركة عن مقتل المناضل الاتحادي»، يقول عبد الله الرامي، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية. الطرف الثاني: الدولة المغربية، التي لا بد أنها تتوفر على معطيات لم تكشف عنها. الطرف الثالث: حركة الشبيبة الإسلامية، وهي الطرف الوحيد الذي تكلم في الموضوع، من خلال وثيقة صادرة عن «الشبيبة الإسلامية» في الخارج، تتوفر «المساء» على نسخة منها، تقول إن «الأجهزة الأمنية حرصت، طيلة أكثر من ثلث قرن، على أن تفبرك كل حين خبرا كاذبا يربطنا بالمدعوّ النعماني، لأنه في رأيها كلما ارتبط اسمه بنا إلا وازداد اختفاء دورها في الجريمة، بل إنّ الأجهزة المغربية استمرت تزوّده بالتوجيه والمال منذ استقر في فرنسا، ويزوره مبعوثها المدعو بلحسن الدادسي، أحد المقربين من عبد الكريم الخطيب، ورشيد بنعيسى، أحد الجزائريين المتحالفين مع النظام المغربي ضد الجزائر.. واستمر بنبلة -بتنسيق مع النظام المغربي- يقدم المساعدات اللوجيستيكية والمادية للنعماني»، لكنها رواية تغفل، عن عمد، توضيح طبيعة علاقة النعماني بالشبيبة الإسلامية، التي لا يرقى إليها الشك، بعدما أكدها أكثر من طرف، وفي طليعتهم قدماء «الشبيبة».
النعماني والأجهزة الأمنية
أعادت الشبيبة الإسلامية، التي أصبحت ترى أن إثارة ملف النعماني هو «إحياء» لقضيتها، التأكيد مباشرة بعد إعلان الأجهزة الأمنية تفكيك «حركة المجاهدين المغاربة»، في ماي 2012، على موقفها، إذ تبرّأت من «حركة المجاهدين بالمغرب» التي أسسه النعماني في 1978، كما نفت وجود أي علاقة للتنظيم المذكور ب«الشبيبة الإسلامية» ولا بأحد من قياداتها أو أعضائها. وأن «عبد العزيز النعماني مؤسس «حركة المجاهدين» وجميع أتباعه لم يكونوا أعضاء في الشبيبة الإسلامية في يوم من الأيام».. بل إن الشبيبة الإسلامية لجأت، في وقت سابق، إلى بعضِ خلاصات هيأة الإنصاف والمصالحة، التي تخدم أطروحتها، إذ تقول وثيقة صادرة عن الحركة إن تحريات الهيأة كشفت حقائق حول حادثة اغتيال عمر بنجلون سنة 1975، وأنه «لدى هيئة الإنصاف والمصالحة قرائن قوية على ارتباط عبد العزيز النعماني بأجهزة الأمن المغربي». وتجد رواية ارتباط النعماني بجهاز أمني معين سندَها في مجموعة من الوقائع التاريخية، أولها أن جريدة «المحرر» (لسان حال حزب الاتحاد الاشتراكي في السبعينيات) كانت قد أخبرت بإلقاء القبض على المسمى عبد العزيز النعماني في عددها الصادر يوم 16 يناير 1977، دون أن يصدر أي تكذيب لهذا الخبر من طرف السلطات المختصة، إضافة إلى المُلتمَس الكتابيّ الذي تقدَّمَ به عبد الرحيم بوعبيد، محامي عمر بنجلون، والذي أكد فيه على «حقيقة اعتقال عبد العزيز النعماني سنة 1977، وهو على أهبة مغادرة المغرب نحو إسبانيا»، واستغرب بوعبيد «كيف لم يتم تقديم المتهم لا لقاضي التحقيق ولا للمحكمة، رغم كونه موضوعَ أمر قضائيّ بإلقاء القبض منذ بداية التحقيق». وحول هذا الموضوع، وجّه عبد الرحيم بوعبيد، بصفته هذه المرة كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي، رسالة لرئيس غرفة الجنايات في محكمة الاستئناف بالدار البيضاء يؤكد فيها «اعتقال عبد العزيز النعماني من طرف الشرطة»، وتضيف الرسالة: «وقد أخبِرتُ بهذا الحادث من طرف السلطات العليا». واعتبر بوعبيد أنه «كان من شأن إلقاء القبض على النعماني أن يوضح ما كان وما ظل غامضا ومتّسماً باللبس وبعدة احتمالات». واختتم بوعبيد رسالته إلى المحكمة بالإشارة إلى أن «عدم مثول المسمى عبد العزيز النعماني أمام محكمتكم يجعل من هذه المحاكمة محاكمة تدعو إلى السخرية والهزل، ذلك أن الأشخاص الذين أمروا بارتكاب هذه الجريمة الشنعاء لم يقدّموا للمحكمة حتى تتوفر للقضاء كل العناصر الضرورية للكشف عن الحقيقة وإصدار حكم عادل في هذه القضية».
النعماني وبليرج
ظل النعماني ينتقل بين بروكسيل وفرنسا، متجولا بكل حرية خلال فراره خارج أرض الوطن. ربط علاقات متشعبة بالعديد من المحاور الإقليمية، من أبرزها إيران والفصائل الفلسطينية والنظام الجزائري ومجموعات مسلحة لبنانية.. وشق عصا الطاعة عن مطيع وأسّس تنظيما مسلحا يهدف إلى «قلب النظام في المغرب وإنشاء الدولة الإسلامية».. كما أصدر مجلة هاجم فيها شيخه السابق مطيع، أطلق عليها «السرايا»، صدر منها عددان. خلال هذه الفترة، تقول الرواية الأمنية الرسمية (محاضر الأمن اطلعت عليها «المساء») تعرَّف النعماني على عبد القادر بليرج عن طريق علي البوصغيري، اليد اليمنى للنعماني، الذي أخبره، بعد أن توطدت العلاقة بينهما، أنه عضو في منظمة معارضة للنظام المغربي، ويتعلق الأمر، طبعا، ب»حركة المجاهدين المغاربة»، التي أسسها النعماني بعد انشقاقه عن مطيع. وفق محاضر الشرطة، دائما، فإن البوصغيري دعا بليرج إلى زيارته في فرنسا للقاء أحد المسؤولين الكبار في هذا التنظيم، «وبعد مرور أيام، اتصل بليرج بصديقه البوصغيري، ليلتقي به في باريس، وهناك أخذه البوصغيري إلى منزل عبد العزيز النعماني، زعيم حركة المجاهدين بالمغرب، حيث تعرف بليرج في المنزل نفسه على محمد النكاوي وأحمد ملوك وعبد الرزاق سوماح، الذي تم اعتقاله في شهر مارس 2012». وفق الرواية الأمنية دائما، فإنه «خلال سنة 1982، أسَرّ أحمد ملوك لعبد القادر بليرج أن حركة المجاهدين ترغب في إدخال أسلحة إلى المغرب لتنفيذ عمليات جهادية، وأن الأسلحة المطلوب إدخالها هي بنادق ورشاشات وقنابل ومتفجرات». كان إرسال أعضاء حركة «المجاهدين المغاربة» إلى لبنان للتمرّن على القتال الحدثَ الذي عجّل برحيل عبد العزيز النعماني، وفق الرواية الأمنية. سمحت العلاقات المتينة التي نسجها مع مجموعة من الحركات اللبنانية المسلحة للنعماني بإرسال صهريه إلى هناك، رفقة كل محمد الغزوي، ومحمد النكاوي، والوهراني، والبشير الماحي، وأحمد ملوك، والموريتاني ومحمد أوشن. وصرّح الموقوفون أثناء التحقيق معهم أنّ «المُجنَّدين المغاربة تعرّضوا للضرب والتعذيب كوسيلة لامتحان قدرتهم على التحمل وكتمان السر في حالة الوقوع في الأسر».. بعد أن توجه هؤلاء إلى معسكرات لبنان للتمرن على القتال، فوجئوا بمعاملة قاسية وحاطة بالكرامة لم يكونوا ينتظرونها، وحين عادوا إلى فرنسا قرّروا الانتقام من زعيمهم النعماني الذي أرسلهم إلى معسكرات التعذيب. هكذا اتفق كل من صهري النعماني حمزة وخالد الصاوي على نصب كمين له في مدينة أفينيون الفرنسية لاغتياله، حسب ما أدلى به أعضاء الخلية الموقوفون في شهر ماي الماضي من طرف السلطات المغربية، حيث أكدوا أن «القاتلَين، حمزة وخالد الصاوي، نفذا العملية بسبب المعاملة السيئة التي تعرّضوا لها من طرف قياديّي التنظيم اللبناني في إحدى المعسكرات التدريبية لمدينة طرابلس» التي يعتبرون أن صهرهم النعماني هو من تسبب لهما فيها. وهي الرواية التي مازال أتباع النعماني يكذبونها، ويؤكدون، بالمقابل، على تورط الأجهزة الأمنية المغربية في مقتل النعماني بتحالف «صليبي».
اغتيال النعماني
كانت هذه هي الرواية الأمنية الرسمية، التي تذهب في اتجاه أن النعماني اغتيل في صراع داخليّ يهم أعضاء حركة المجاهدين المغاربة.. بالنسبة إلى الباحث في الحركات الإسلامية، محمد ضريف، فإنه «في سنة 1984 اختفى النعماني، وهناك من يقولون إن المخابرات المغربية، بتنسيق مع نظيرتها الفرنسية، قامت بتصفية النعماني في فرنسا، وهناك رواية ثانية تقول إن الفرنسيين لا يمكن أن يسمحوا باغتيال النعماني على أراضيهم، وبالتالي كان اغتيال النعماني أشبهَ باغتيال المهدي بنبركة.. لكنّ الأهم أنه مع نهاية سنة 1984 لم يعد للنعماني أيّ أثر، واختفى عن الأنظار، وانتهى الحديث عما يسمى «حركة المجاهدين بالمغرب».. رواية تتقاطع إلى حد كبير مع وثيقة (تتوفر عليها «المساء») صادرة عن محمد النكاوي، الذي خلَف النعماني على رأس التنظيم المسلح، يقول، فيها بأن «النعماني قُتل غدرا بتواطؤ استخباراتيّ محلي ودعم إقليميّ صليبي وبالاعتماد على أدوات داخلية من بني جلدتنا».. وكان النكاوي، المعتقل داخل السجن المركزي في طنجة، يتحرك بهوية مزورة وهي «عبد الله الريفي».. وكانت له علاقة مع روبير ريتشارد، المعتقل على خلفية اتهامه بالضلوع في أحداث 16 ماي، لأنه كان ينوي تكليفه بالجناح المسلح لحركة المجاهدين المغاربة.. وأشار النكاوي، في رسالته السابقة، إلى شخص آخر خلفه على رأس الحركة، وهو في السجن، ويتعلق الأمر بعلي البوصغيري، الذي كان يتحرك بهوية مزورة أيضا، حتى أعلِن، في شهر ماي الماضي، عن اعتقال أعضاء خلية المجاهدين المغاربة وعثر على جثة علي البوصغيري في منزل بأحد دواوير نواحي مولاي بوسلهام.. في هذا السياق، يقول محمد ضريف: «منذ وفاة النعماني في 1984 لم يعد أحد يتحدث عن حركة المجاهدين بالمغرب، إلى أن جاءت سنة 1994، حيث طفت على السطح، من جديد، بعدما أثير اسم «الحركة الإسلامية المجاهدة» على إثر اعتقال عبد الإله زياد(المتوزرط في أحداث إسني بمراكش) وطرح السؤال حينها: هل يتعلق الأمر بالتنظيم نفسه الذي كان يحمل اسم حركة المجاهدين بالمغرب، أم إنه تنظيم ثانٍ؟ لتعود إلى الواجهة، مرة أخرى، مع اعتقال محمد النكاوي في خضمّ الاعتقالات التي تلت أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، ليتضح حينها أن هذا التنظيم ما زال موجودا»، مضيفا: «تفيد المعلومات المتوفرة إلى حدود الساعة أن كلا من علي البوصغيري والنكاوي غادرا المغرب سنة 1984 وعادا إليه بهويتين مزورتين في بداية التسعينيات». كان لا بد للنعماني، إذن، أن يعيش طويلا حتى بعد وفاته البيولوجية.. كان هذا الشاب، الذي تلقى التداريب القتالية على يد بعض الفصائل الفلسطينية، ومنها مجموعة «أبو نضال» خلال مذبحة صبرا وشاتيلا التي تعرض لها الفلسطينيون اللاجؤون في 1982، متواجدا فوق الأراضي اللبنانية، حسب إفادات مجموعة من المصادر القيادية في صفوف الشبيبة الإسلامية، وبعدها عاد إلى فرنسا، حيث تعرَّض للاغتيال. هنا تتناسل الأسئلة التي ليست لها أجوبة واضحة: كيف تمكّن النعماني من مغادرة المغرب واللجوء إلى فرنسا؟ وهل لعب عبد الكريم الخطيب بالفعل دورا في هذه العملية؟ وإذا كان الخطيب قد لعب دورا فمن هي الجهة التي طلبت تعاونه معها ومن أعطاه الضوء الأخضر؟ ولماذا لم يطالب المغرب فرنسا بتسليمه إذا كان مطلوبا في ملف اغتيال بنجلون؟ وهل تم توظيف النعماني من طرف فرنسا ضد المغرب في بداية الثمانينيات مع وصول الاشتراكيين الفرنسيين إلى السلطة؟.. يتعلق اللغز الثاني في قضية عبد العزيز النعماني بتأسيسه التنظيم السري في بداية السبعينات، أي قبل اغتيال بنجلون، إذ يطرح هذا الأمر عدة تساؤلات، من بينها: هل لم يكن للنعماني فعلا، كما تقول الشبيبة الإسلامية، أي علاقة بها ولم ينضمَّ إليها أبدا؟ أم أن الأمر يتعلق بانشقاق عن الشبيبة في بداية السبعينيات؟.. تطرح هذه الإشكاليات واحدة من فرضيتين: إما أن حركة المجاهدين المغاربة كانت بمثابة الجناح المُسلَّح لحركة الشبيبة، وهي التي نفذت عملية اغتيال بنجلون، وهنا تكون مسؤولية الشبيبة عن العملية تابثة، وإما أن تكون الحركة قد انشقّتْ عن جماعة مطيع وقامت بتنفيذ العملية التي ألصِقت بالشبيبة».. لكن ما هو مؤكد هو أن مجلة «السرايا»، التي أسّسها النعماني في فرنسا، كانت تنشر مقالات تهاجم مطيع، وهذا يعني أن الأمر كان يتعلق بانشقاق وليس بتنظيم موازٍ، لأنه لا يمكن للنعماني أن يصدر مجلة يهاجم فيها «شيخه» إذا لم يكن قد انفصل عنه أو وضع نفسه بديلا عنه، وبالتالي فإن جزءا كبيرا من الحقيقة لا يملكه إلا الشيخ عبد الكريم مطيع، مؤسس حركة «الشبيبة الإسلامية»، الذي ما زال مُصرّا على نفي أي ارتباط له ولمنظمته بعبد العزيز النعماني، رغم الشهادات التي تؤكد وجودها، وأبرزها تلك الواردة في تقرير هيأة الإنصاف والمصالحة.
عبد الكريم مطيع.. «الأمير» الهارب
في بداية مشواره السياسي، التحق عبد الكريم مطيع بحزب «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، قبل أن يؤسّس حركة «الشبيبة الإسلامية»، معتمدا في
ذلك على كتاب «معالم في الطريق» لمؤلفه سيد قطب. بعد اغتيال الاتحادي عمر بنجلون، توجه إلى المملكة العربية السعودية، حيث ظل مقيما فترة من الزمن هناك، قبل أن يذهب إلى الكويت، لينتهيّ به المطاف لاجئا في ليبيا.. استفاد مطيع من الجفاء الذي كان بين الحسن الثاني ومعمر القذافي حينها، إذ إن نظام الأخير كان يوفر له الحماية والأمان، قبل أن يتوجه إلى لندن لاجئا سياسيا، بعد سقوط نظام الديكتاتور معمر القذافي، حيث ما زال يقيم إلى اليوم.. حاول مطيع أن يفتح قنوات للاتصال مع السلطات منذ تولي الملك محمد السادس العرش سنة 1999، من أجل العودة إلى المغرب، خصوصا أن حالته الصحية متدهورة، حسب ما يُصرّح به مقربون منه. بعد سنوات من «الهروب الاضطراريّ»، يعتقد مؤسس «الشبيبة الإسلامية» أن الجميع يقفون رواء منعه من الرجوع إلى البلاد، بمن فيهم إسلاميو العدالة والتنمية ويساريو الاتحاد الاشتراكي والنظام السياسي.. أنشأ مطيع سنة 1972 «جمعية «الشبيبة الإسلامية»، مع العلم أنه كان، في الواقع، يمرر تصوراته عبر «الإطار السري» الذي أسسه سنة 1969، المتجلي في حركة «الشبيبة الإسلامية». يؤكد ضريف أن «الجمعية والحركة وجهان لعملة واحدة».. ويفسر مؤلف كتاب «الإسلاميون المغاربة» هذه الازدواجية برغبة مطيع في «حماية الحركة قانونيا وللتمويه على السلطة سياسيا وإخفاء «التنظيم العسكري» داخل الحركة».. ويضيف ضريف أن حركة «الشبيبة الإسلامية» هي التي جسدت المشروع «الانقلابي» لعبد الكريم مطيع، لذلك ينبغي الاهتمام ب»تركيبة» الحركة، التي كانت تخضع لمقتضيات العمل السري، أكثر من الاهتمام بهيكلة الجمعية، كما وردت في قوانينها». لهذا الغرض، أسس عبد الكريم مطيع «جناحا مدنيا ودعويا»، يتكون من 5 شعب، وهي شعبة الأساتذة، والمعلمين، والتلاميذ، والعمال، والحرفيين. وفي المقابل، كلف عبد العزيز النعماني بالإشراف «الجناح العسكري» ل«حركة الشبيبة الإسلامية» وتأطيره سنة 1970، وحرص مطيع على ألا تُنسَج أي صلة بين الجناحين، إذ يبدوان كتنظيمين منفصلين.. ورغم أن قيادات «حركة الشبيبة الاسلامية» ظلت تنفي وجود مثل هذا التنظيم، فإنّ مجموعة من الأحداث التي أعقبت حادث اغتيال عمر بنجلون على أيدي مجموعة من المتشددين ينتمون إلى «الشبيبة الإسلامية»، بينت أن هناك «تنظيما سريا» أسِّس لتكليفه بتنفيذ عمليات مُسلَّحة.
بقايا التنظيم السري المسلح
بعد اغتيال عمر بنجلون وخروج عبد الكريم مطيع من المغرب، نشب خلاف بين مؤسّس الحركة و«القيادة السداسية»، التي اضطلعت بالتنظيم في الداخل، ما أفرز ثلاثة تيارات على مستوى «الجناح الدعويّ». أما على صعيد «الجناج العسكري» فقد انفصل عبد العزيز النعماني عن مطيع، وبقيّ كذلك إلى أن أعلن، في 1978 عن تأسيس «منظمة المجاهدين المغاربة»، التي بقيّ على رأسها، قبل أن «يختفيّ» في 1984.. خلفه محمد النكاوي على رأس «منظمة المجاهدين المغاربة». وقد دخل النكاوي إلى المغرب في بداية التسعينيات، وبقيّ يتحرك تحت اسم «عبد الله الريفي»، قبل أن يتم اعتقاله على خلفية تفجيرات 16 ماي الإرهابية في 2003، حيث اعترف بعلاقته بالفرنسيّ بيير روبير أنطوان، الذي اعتنق الإسلام وجاء إلى المغرب من أجل تشكيل خلية إرهابية تتولى تنفيذ أعمال إرهابية في عدد من المدن المغربية، فاعتقلته الأجهزة الأمنية وصدر في حقه حكم بالمؤبد.. كما اعترف به النكاوي -الذي اتهمته السلطات المغربية بالإعداد لأعمال إرهابية- أمام هيئة محكمة الاستئناف في الرباط بإدخال أسلحة نارية إلى المغرب وامتلاكها. وجاء اعترافه بعد انتهاء المحكمة من استنطاق المتهم الفرنسي بيار روبير أنطون، الملقب حينها ب»الحاج أبو عبد الرحمن». دفع انفصال النعماني عن الشبيبة الإسلامية وتأسيسه «منظمة المجاهدين المغاربة» عبد الكريم مطيع (حسب محمد ضريف، في كتابه «الإسلاميون المغاربة») إلى تأسيس «تنظيم مسلح» جديد في بداية منذ شتنبر 1980، أطلق عليه «فصيل الجهاد». وارتكز هذا التنظيم في بنائه على نظام «الكتائب»، وتحدّدت مهمته في «الإعداد لعمليات مسلحة داخل المغرب»، لكن السلطات تمكنت من ضبط مجموعتين تنتميان إلى هذا التنظيم، المجموعة الأولى هي مجموعة «71»، التي ألقي القبض على أعضائها في صيف 1983، حيث توبع 51 عضوا منها حضوريا، و20 عضوا منها غيابيا، وأدينت عناصرها قضائيا فجر الثلاثاء، 31 يوليوز 1984، وحكم على عبد الكريم مطيع غيابيا بالإعدام.. أما الثانية فهي مجموعة «26»، التي ألقيّ القبض على عناصرها في يوليوز 1985، إذ توبع 17 منهم حضوريا، في حين حوكم تسعة أعضاء منهم غيابيا، وأدينت قضائيا يوم الاثنين، 2 شتنبر 1985، وكان نصيب عبد الكريم مطيع، مرة أخرى، حكم غيابيّ بالإعدام.
الرامي: هيئة الإنصاف والمصالحة لم تخبرنا عن طبيعة علاقة النعماني بالجهاز الأمني
قال إن اتهامه من طرف «الشبيبة الإسلامية» بأنه عميل مندس تصفية حسابات
– لماذا يلفّ الغموض شخصية عبد العزيز النعماني، إلى درجة أنه لم يسبق نشر صورة شخصية له في وسائل الإعلام؟ بكل بساطة، لأن الرجل يعتبر المتهمَّ الرئيسي في قضية قتل المناضل الاتحادي عمر بنجلون، في حين هو شخص غير معروف لدى الرأي العامّ، والمعلومات حوله قليلة، إضافة أن الرجل كان يشتغل في دواليب العمل السري، وبالتالي فطبيعة هذا الدور لا يتناسب مع الظهور.. والغموض لا يلف فقط شخص النعماني، فهناك العديد من رفاقه ومن قادة العمل الثوريّ الاسلامي في الخارج لا يعلم عنهم الرأي العامّ شيئا، في حين أنهم أدوا وظائفَ وأدواراً بالغة الحساسية. ربما جرى الحديث مؤخرا عن النكاوي، ثم عن بليرج، الذي أضحى قضية رأي عامّ، بفضل التغطية الإعلامية الواسعة التي حظيّ بها، لكنْ إلى حدود اليوم لا يعلم الرأي العامّ، وحتى المراقبون شيئا عن الأبيض وخالد الشرقاوي والطيب بنتيزي ومحمد الكربوزي وأغيري.. هذه الشخصيات تمثل قيادات لخلايا وحركات مغربية جهادية في الخارج، وهي متهمة في قضايا تتعلق بالأمن العام، وهي كلها شخصيات يلفها الغموض وصورهم غير معروفة، ثم إنّ كل تلك العناصر تخرجت من الحركة الأم، الشبيبة الإسلامية. – لماذا تصرّ الشبيبة الإسلامية على نفي أي علاقة للنعماني بها وبتاريخها وتتهمه بالعمالة؟ حتى ترفع عن نفسها تهمة القتل، ما دام أن النعماني هو المتهم الرئيسي بقتل بنجلون، وبالتالي ليس هناك من سبيل لتخليص الحركة من التهمة الجنائية سوى نفي صلة النعماني بالشبيبة الإسلامية.. النفي ثم النفي حتى يُصدّق الجميع.. وفي واقع الحال فإنّ النفي لا يصمد أمام العديد من الشهادات التي تدلّ على انتساب النعماني بالحركة وتبوّئه موقعا قياديا، يكفي أن معظم الكوادر الجهادية في الخارج وعناصر الشبيبة المنشقة تعترف بموقع الرجل ضمن الحركة، على الخصوص في فصيلة الجهاد. أما اتهامه بالعمالة أو بانه كان مجندا من قِبل الاستخبارات فهو في الأساس اتهام سياسيّ، فحتى لو افترضنا صحة الأمر، فإن كنه الاتهام هو تصفية حسابات، خصوصا بعدما نشأت خصومة وعداوة بين الرجلين.. والمعادلة الواضحة التي ينطلق منها مطيع تاريخيا هي أنّ كل من نكث بيعته له فهو عميل للبوليس.. وهذه التهمة تكاد تسري على كل نشطاء الاسلام السياسي في المغرب.. يكفي أن تطلع على بيانات الرجل لتلمس بسهولة ذلك.. كأنّ قيادة الشبيبة تعيش شبه فوبيا البوليس والاستخبارات.. ونحن من هذه الجهة نحترس من التّهم. – هل يمكن أن نقدم نوعا من «التشكيك المنهجي» في رواية الشبيبة الإسلامية؟ بكل تأكيد، وأنا قلت إنّ علينا أن نحترس من التهمة لا أن ننفيّها، فالقضية معقدة وغامضة، لأن التهمة تتأرجع بين طرفين، حيث الغموض والسرية من طبيعة نشاطهما، وهما حركة الشبيبة والجهات الأمنية. فمن المعلوم أن القتلة المباشرين هم عناصر من الشبيبة الإسلامية، وهؤلاء اعتبروا العملية معزولة، وهي مجرّد رد فعل، ونفوا أي صلة للحركة بها، في حين اتهمت السلطات النعماني كقائد لفصيل جهاديّ داخل الحركة باعتباره المسؤولَ عن العملية، أما قيادة الحركة فاتهمت السلطات الأمنية بالعملية واعتبرت النعماني عميلا مُندسّاً.. إذن، فنحن أمام حفلة التفاف وتوريط وتصفية حسابات.. والحقيقة لا يعلمها إلا الرؤوس المسؤولة. – تقول وثيقة صادرة عن هيئة الانصاف والمصالحة حول حادثة اغتيال عمر بنجلون سنة 1975 إن «جهازا أمنيا سريا وراء عملية الاغتيال، وإن الملك الراحل أكد لعبد الرحيم بوعبيد أن المسؤول المباشر عن التخطيط للقتل هو المدعو عبد العزيز النعماني»، كما تقول الوثيقة نفسها إنه لدى هيئة الإنصاف والمصالحة قرائن قوية على ارتباط عبد العزيز النعماني بأجهزة الأمن المغربيّ.. كيف يمكن أن نعلق على هذا التقرير؟ في واقع الأمر، هذا أول اعتراف صادر عن جهة رسمية موضوعية، لكنْ للأسف، لم تقدم هيئة الإنصاف والمصالحة تفاصيلَ عن الموضوع.. صحيحٌ أنها اعترفت بوجود علامات وقرائن، لكنها لم توضحها، زيادة على ذلك لم تقدم لنا بيانا واضحا عن الأطراف المسؤولة، فمن هو هذا الجهاز الأمنيّ المسؤول؟ من يترأسه؟ ومن يكون عبد العزيز النعماني؟ وما علاقته بالجهاز الأمنيّ؟ وكيف تمّ ترتيب عملية تصفية عمر بن جلون؟.. والمفارقة أن التقرير نفسَه يتهم عبد الكريم مطيع بأنه كان يحظى ب«الرعاية» من الدولة ويتلقى منها أموالا.. في واقع الحال، فإن مطيع يعترف -بشكل أو بآخر- بأنّ ملف الشبيبة، من إنشائه إلى التطورات اللاحقة عليه، كان تحت إشراف خلية الخطيب، المكونة من البصري ومدير الديوان حينئد أحمد بنسودة وعمر بهاء الدين، رجل السعودية والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وحسني بنسليمان.. وهو يعترف بأنه كانت له لقاءات عديدة وجلسات مطولة مع عناصر الخلية. والملفت، أن مطيع نفسَه يتهم النعماني بكونه من أتباع الخطيب، هذا يوضح أن قصة الشبيبة والإسلام الدعويّ والحركي حينها كان ضمن رهانات الدولة لمواجهة اليساريين، وهذه السياسة تدخل ضمن رؤية وشراكة أمنية وإستراتيجية بين أكثرَ من دولة في أعقاب الحرب الباردة… وقد بدأ مطيع يدرك هذا الأمر ومحدودية إمكاناته وطموحه حينما كان يتنقل بين الدول. فاستعمال الورقة الاسلامية لم يكن يقتصر على البعد الداخليّ، ففيه جوانب جيو إستراتيجية، فتكفي الإشارة هنا إلى أن الخطيب لعب بالورقة الإسلامية، وكان حاضرا في إيران وأفغانستان والبوسنة والجزائر والسلفية الجهادية.. وبالتالي فما لا يدركه مطيع هو أن ضعف أو قوة أيّ فاعل سياسي لا تتعلق بشخصه، بل بالموارد التي يتحكم فيها.. وهكذا فلعبة الحراك الإسلامي كانت أكبرَ منه بكثير، وإن كان له موقع رياديّ فيها، ومع كل ذلك فإن حاثة مقتل بنجلون ستظل غامضة في تفاصيلها.
الشبيبة الإسلامية: العدالة والتنمية رفع تقريرا إلى الملك يحذره من عودة الشيخ مطيع
– بعد أن طالت القضية، التي يبذل النظام جهدا جهيدا لحلها، ويبذل الجهد نفسَه للتعتيم على براءة الشبيبة الإسلامية المغربية من دم بنجلون، وبدأت تنكشف الحقائق بالتدريج، أخذ ممثلو النظام يعتذرون لنا بأنّ الملك مضغوط عليه من قبل اليساريين.. وأنّ “الملك لا يستطيع حاليا مخالفة اليسار لأنه محتاج إليه”.. ثم لما ملّ الناس هذه الأسطوانة المشروخة، انتحل النظام مبررا آخر لعرقلة عودة الشيخ مطيع، فحواه أن حزب العدالة والتنمية بَلغته نية الملك حل هذه المشكلة فرفع إليه تقريرا مفصلا يحذره من عودة الشيخ مطيع وخطورة ذلك على النظام، ما جعل الملك يتراجع عن قراره استجابة لنصائح حزب العدالة والتنمية.. – حرصت الأجهزة الأمنية طيلة أكثر من ثلث قرن على أن تفبرك كل حين خبرا كاذبا يربطنا بالمدعو النعماني، لأنه في رأيها كلما ارتبط اسمه بنا إلا وازداد اختفاء دورها في الجريمة. بل إن الأجهزة المغربية استمرت تزوده بالتوجيه والمال منذ استقر في فرنسا، ويزوره مبعوثها المدعو بلحسن الدادسي، أحد المقربين من عبد الكريم الخطيب، ورشيد بنعيسى أحد الجزائريين المتحالفين مع النظام المغربي ضد الجزائر، واستمر بنبلة بتنسيق مع النظام المغربي يقدم المساعدات اللوجيستيكية والمادية للنعماني وبلعيرج والمعتصم، وأصحابهم، فسهل لهم اختراق النظام الإيراني بما له من نفوذ وصداقات معه، وذلك عبر بوابة لبنان أولا، ثم مباشرة عبر طهران ، وفسح لهم مجال مساعدته على إصدار مجلته في باريس، فسخروها أيضا للكذب على الشيخ مطيع والتشهير به ظلما وبهتانا وظلما. وسخرهم لتهريب الأسلحة إلى داخل الجزائر لمصلحة أعوانه…. – في الوقت الذي كان المرواني والمعتصم ويوسف لبيض في تنظيمهم، الذي ترعاه إيران من جهة، والاستخبارات المغربية من جهة أخرى (الاختيار الإسلامي) لا همّ لهم إلا توزيع المناشير في أوربا باسم تنظيمهم، تشهيرا بالشيخ مطيع لاتهامهم له بعرقلة المد الشيعيّ في المغرب، كان بلعيرج وبعض أصحابه في إيران يُحرّضون الإيرانيين على الشيخ، لأن الأجهزة المغربية كانت تخشى أن يلجأ الشيخ مطيع إليها بعد أن أخرجته السعودية من مكة المكرمة. – بعد التغييرات التي حدثت في الأجهزة المغربية وغياب إدريس البصري، رأت الدولة أن تفكك جميع الشبكات المعقدة التي تركها العهد القديم وراءه، فكان قرار تفكيك شبكة بلعيرج والمعتصم الأمنية، لإعادة بناء شبكات أخرى جديدة ومناسبة وطبقا لمواصفات العهد الجديد، فكان ما كان من اعتقال بلعيرج وأصحابه، لأنّ لعبتهم سارت في مسار غير مرغوب فيه.. والقضية كلها مجرد تفكيك جهاز استخباراتيّ تابع لرجال إدريس البصري، المقبور، كان يُسخّره لاختراق التنظيمات المعارضة والمعادية في المغرب وخارجه. – تعرَّفَ عبد القادر بليرج، في أواخر سنة 1982، في مدينة بروكسيل على المدعو “البوصغيري”، العضو في منظمة “حركة المجاهدين في المغرب”، التي يتزعمها عبد العزيز النعماني، المتمركز في فرنسا آنذاك، حيث كان هذا الأخير يطمح إلى تغيير النظام في المملكة اعتمادا على استقطاب عناصر من داخل المملكة وأوربا وترويج مجلة “السرايا”.
مقتطفات من وثيقة صادرة عن الشبيبة الإسلامية
النكاوي: الاستخبارات المغربية أشرفت على اغتيال النعماني
في أول خروج إعلامي قال ل«المساء» إنّ حركتنا شاركت في عمليات عسكريّة مع فصائل المقاومة اللبنانية
– لم تتحدث في الرسالة التي كتبتها من سجن القنيطرة قبل سنوات قليلة بشكل أكثر تفصيلا عن ملابسات اغتيال عبد العزيز النعماني؟ من عرف الشيخ عبد العزيز النعماني، رحمه الله، عن قرب يدرك أن أمثاله لا يمكن أن يكونوا من المعمّرين، للقتل خلقوا.. إن الدعوة تقدم الدم في سبيل مبادئها، ولن تموت وإنْ انحسرت.. إن طريق الأحرار مفروشة بالأشواك، محفوفة بالمكاره، ممزوجة بدفق الدماء والآلام والتحديّات والأعباء.. ان مقتل النعماني هو الوجه الآخر لتجربة اغتيال سياسيّ لم تزل تريق بحورا من المداد ولم تفَكَّ سائر طلاسمها وأسرارها، أعني بذلك اغتيال المهدي بنبركة، فكلاهما كانت نهايته في فرنسا، كلاهما كان التواطؤ الفرنسيّ حاضرا في مقتله، كلاهما كان معارضا شرِسا للنظام، كلاهما تُطرَح بخصوص مقتله ألْفُ علامة استفهام، مع الفارق في عقد المقارنة.. لقد أشرفت الاستخبارات المغربية، عبر ضابط الاتصال المدعو الإدريسي، المتحدّر من المنطقة الشرقية، الذي كان مكلفا بملف الحركة وعلى اتصال وثيق بالسفارة المغربية في فرنسا، وكانت الأدوات هي بعض «المتساقطين» في طريق الدعوة، استُعملوا كوسيلة لتحديد مكانه وتصفيته والمشاركة في ذلك.. ولأن النعماني، رحمه الله، كان دائمَ الحركة كالنحلة، فلم يكن يكترث لأمنه الشخصيّ وحراسته، فقد كانت كل حركاته مرصودة من المخابرات المغربية والفرنسية.. وعند تحديد «ساعة الصفر» كان التوقيت محددا بعناية فائقة، إذ كانت المجموعة الأشدّ قربا من الشيخ، وهم القاعدة الصلبة للحركة، وقتذاك في مهمة جهادية في لبنان. هكذا رُصِد الشيخ وهو في ضاحية مدينة أفينيون، التي كان في طريقه إليها، وبتواطؤ مع الاستخبارات الفرنسية أغلقت الطرقات المؤيدة إلى مكان تواجده وتمّت تصفيته.. وترك لساعات وهو ينزف إلى إنْ مات، رحمه الله، وبعد عودتنا من لبنان شنّت السلطات الفرنسية حملة اعتقالات في صفوف الحركة طالت حتى زوجات الإخوة، تلتها مضايقات ومحاولات اغتيال طالتني شخصيا، واستهدفت -في مرحلة أخرى- الشيخ علي البوصغيري، رحمه الله. – متى التقيت بالنعماني؟ الحديث عن الشيخ القائد عبد العزيز النعماني، رحمه الله انه ذو شجون.. لقد شرّفني المولى، تبارك وتعالى، بلقائه في فرنسا، وصحبته لسنوات، كان أيامَها ينشط رفقة الرعيل الأول ممن كانوا معه وأسسوا هذه الجماعة ووضعوا الخطوط العريضة لتجربة ثورية في العمل الإسلاميّ، كان اللقاء والانتماء عام 1980، ومن نافلة القول إن الشيخ النعماني أسس حركة المجاهدين في المغرب عام 1978، رفقة الشيخ علي البوصغيري، رحمه الله، ذلك الرجل المبتلى، الذي لازم النعماني كظله في كافة مراحل العمل والدعوة والبناء والخروج بالجماعة من السرية إلى علنية الدعوة وإظهار مبادئها ومنهاجها.. وليس سرّا إنْ قلتُ إن مجلة الجماعة، التي كان يصدرها الشيخ عبد السلام ياسين، نشرت بيانات للحركة، ما يُظهر مدى حضورها وكونها رقما مُهمّا في تلك المرحلة من العمل الإسلامي، حتى إنّ الشبيبة الإسلامية، في كتابها «المؤامرة الكبرى»، أوردت أحد بيانات الحركة في وفاة احد أبنائها داخل السجون مضربا عن الطعام. في تلك الفترة العصيبة من التاريخ المغربي، قمنا للعمل، حيث كانت الشدة والحصار والاعتقالات في ذروتها.. لقد استطاع النعماني، في ظرف وجيز، أن يخرج بجماعته من مجرد مجموعة أفراد إلى جماعة تستقطب المئات من خيرة الشباب المغربي المهاجر، وأن تضع بصمتها في العمل الدعويّ وسط الجالية المغربية في عدة بلدان أوريية، وأن تحشد الجموع تحت راية واضحة، بلغ إيمانهم بها درجة تقديم التضحيات بالأموال والأوقات والطاقات والأعمار. لقد كان النعماني، رحمه الله، القائد المؤسس، يمتلك قدرات القيادة، ما أهّله إلى أن يكون علامة فارقة في هذه الطريق.. ولأنه كان يمتلك مواصفات ربانية، فقد كان اغتياله مطلبا وهدفا وغاية.. في مرحلة معقدة من تاريخنا المعاصر، كانت فيها عناصر الجماعات الإسلامية ما بين طريد ومعتقل، شأنها في ذلك شأن كافة التيارات اليسارية. – ما هي العمليات التي نفذتها حركة «المجاهدين المغاربة» مع فصائل المقاومة اللبنانية؟ إنها صفحة مجيدة من ملحمة الحركة الإسلامية وأوراق غائبة اندسّت مع تعاقب الزمن، وقد آن الأوان لإماطة اللثام عنها حتى نُسمع للناس روايتنا من رؤيتنا وواقع معايشتنا للأحداث، وليس من خلال ما يستنتجه عنا غيرنا ويُحوّره لصالح أجندات معادية.. عندما وصلنا في مجموعات متعددة إلى طرابلس -الشام في ثمانينيات القرن الماضي، بعد لأي وجهد وعناء، كانت الحرب الأهلية في أوجها، كان هدفنا المركزيّ التدريب والإعداد العسكريّ، بعد الانتهاء من تلك المرحلة انخرطنا في القتال جنبا إلى جنب مع حركة التوحيد، بقيادة الشيخ سعيد شعبان رحمه الله.. فقد كانت مناطق أهل السنة تحت الحصار، والمجازر في ذروتها، وهو قتال دفاع عن إخواننا المسلمين المستضعَفين، في مواجهة النظام الناصري البعثي في سوريا، الضالع في سفك الدماء وهتك الأعراض.. وبعد انسحاب الفصائل اللبنانية المقاتلة في تلك المرحلة العصيبة، انسحبنا، ثم غادرنا الشمال، عائدين إلى مواقعنا. وبعد العودة إلى فرنسا، كان في انتظارنا النبأ الصادم: اغتيال القائد المؤسِّس في إطار مخطط مؤامرة شاملة لتصفية كل عناصر وقيادات الجماعة.. وذلك فصل آخر من هذه السيرة الحركية لحركة المجاهدين وأميرها النعماني، رحمه الله. – ما نوع العلاقات التي جمعتكم بمطيع؟ الحقيقة أننا، في حركة المجاهدين بالمغرب، لم تكن لنا علاقة تذكر بالشيخ عبد الكريم مطيع، ذلك أن الشيخ النعماني -بما له من رصيد وقيمة حركية وعبقرية تنظيمية- عندما أسّس الحركة عام 1978، انطلق في خط حركيّ وخيار إستراتيجي في التربية والإعداد والزحف، بشكل لا يلتقي مع خيارات الشبيبة الإسلامية آنذاك.. هذه هي الحقيقة التاريخية الكبرى التي غابت عن كثير من الراصدين للحالة الإسلامية في المغرب، لقد شكلنا داخل النسق الحركيّ طليعة بتجربتنا المنفصلة عن باقي التجارب في المساقات والسياقات، بعيدا عن مطيع وخياراته. أما النعماني، رحمه الله، وارتباطه بمطيع و«الشييبة الإسلامية» في مرحلة ما من تجربته الحركية فذلك أمر معروف، وإنْ حاول البعض أن يطمسوا معالمها أو يشوّهوا سيرتها ويقلبزا حقائقها، فسيظل النعماني قامة كبرى في هذه الدعوة المباركة، ولو تقوَّلَ الشانئون. لقد انقطعت كافة صلات النعماني بمطيع قبيل إعلانه مشروع تأسيس الحركة.. إننا في حاجة إلى كتابة تاريخنا من خلال رؤيتنا، وليس من خلال ما يقال أو يُكتب ويُفبرَك عنا، وهذا شان له أوانه في تقديراتنا، إن شاء الله، إن من حق أمتنا علينا أن ننقل إلى الأجيال القادمة تجربتنا ورؤيتنا لتلك الأحداث الكبرى التي عاصرناها وعايشناها عن كثب. ولا تزال كافة تفاصيل نشأة الحركة وقائدها ومقتله تحتاج إلى أسفار عديدة للإلمام بكافة تفاصيلها وجوانبها. – أين تربى وترعرع النعماني قبل التحاقه بالعمل الإسلامي الثوري؟ يتحدر النعماني رحمه الله، من الدار البيضاء، إنه واحد من ذلك الجيل الفريد من الحركة الإسلامية المغربية وبدايات صحوتها المباركة، نشأ ديِّناَ، خيِّرا، مُحبّاً لهذا الدّين. وكان لمحنة سيد قطب رحمه الله وكتاباته الأثرُ البعيد في وجدانه، أهّله لأن يسلك هذا الدرب ويمضي فيه إلى الغاية، بإذن الله، إلى آخر الشوط.. كان من تدابير القدَر وهو في فتوته، وهو الطالب في الجامعة آنذاك، أن يلتحق بصفوف الشبيبة الإسلامية، ويمضيّ في طريقها من خلال سرية مرحلية، إلى أن دخلت الحركة ككل في منعطف الابتلاء.. لقد كانت تلك البدايات الحركية منطلقا لصقل تجربته ومواهبه وخبراته الحركية والتنظيمية التي راكمها مع الزمن وبالعمل الدؤوب المتواصل، حتى بعد أن غادر الحركة الأم في ظروف قهرية، معقدة، تحوطها الكثير من الأعباء والمعاناة والضراء.. ولأنّ الشيخ عبد العزيز النعماني كان يمتلك قلبا كبيرا، فقد حافظ على حبال الود مع مطيع ولم يطعن في سابقته وفضله حتى عندما شنّت عليه الشبيبة «حرب البيانات»، التي ما تزال متواصلة إلى الآن، كانت توصيات الشيخ بعدم الرد أو الانسياق وراء حرب البيانات، أقول وأكرر، إنه في منعطف حاسم أرسى النعماني قواعد مدرسة حركية من خلال جماعة المجاهدين، التي لاقت ما لاقت من المكاره وظلت قائمة في صمت وإصرار، فقد ظلت علامة فارقة في طريق الدعوات، وسيأتي يوم تبرز فيه كبرى معالم تلك التجربة في بُعدها التاريخيّ، من خلال دراسة من الداخل شهادة لله والناس والتاريخ..
تحقيق للزميل سامي المودني فاز بجائزة عربية نشر بالاتفاق معه