بمناسبة اليوم العربي للمسرح.. الفنان العراقي الدكتور جواد الأسدي يتساءل عن أي مسرح وعن أي ثقافة سنتحدث؟
دأبت الهيئة العربية للمسرح بمناسبة اليوم العربي للمسرح الموافق ل 10 يناير من كل سنة على اختيار اسم فني لكتابة رسالة وقد تم تكليف الفنان العراقي الكبير الدكتور جواد الأسدي بهذه المهمة والتي عنونها “عن أي مسرح وعن أي ثقافة سنتحدث؟”.
إليكم نص الرسالة :
صباح الخير، عبق الخشب في بيتنا ومأوانا الأول.
صباح الخير خشبة المسرح ملاذي، مأواي، قاربي وجسري إليكم.
صباح الخير لدروب الندم وأربعين عاماً من النفي الجبري على أرصفة الثقافات.
صباح الخير للتصفيق النابع من هسيس الجراح، يفاعة الدهشة، دلال الخلق، وبيت المعنى الداكن والمتواري خلف الظلال.
صباح الخير غروتوفسكي، بيتر بروك، جوزيف شاينه، يوري ليبيموف، ايفروست.
صباح الخير يفاعة الأحلام، هوس الأمل، دروس التهجي والأيدي التي قادتنا من معاصمنا لنرى هول الظلمات في عتمة الكواليس.
صباح الخير على سنوات الحنين والجوع المر في بلاد الملاحم وعلماء الطبيعة ومن دقوا ورسخوا مسمار الكتابة ودونوا الأساطير وبصمة التنوير، والجمهور العريق المتدافع أمام شباك التذاكر في المسارح الحداثية كتابة وإخراجاً حتى هطول السخام في ذلك اليوم الأرعن. وانزياح الحياة الحرة والتأريخ الجمالي عن سكك حديد التنوير، وسقوط البلدان في عاصفة العدم وانسداد الأبواب المدنية وانطفاء جذوة الثقافة وتسييد جحيم الطوائف التي رسخت قواميس الجوع وكتابة الخراب والذل وسفك الدماء.
صباح الخير على ممثل دور هاملت في “لا نكون أو كيف سنكون”، عقلانيين، كينونيين، مدنيين، جماليين، معرفيين أم أميين؟ سلفيين، ماضويين، غيبيين، قدريين، معلقين في سماوات الحرائق والهجرة في بحار الغرق والموت على الحافات بحثاً عن بلدانٍ خاليةٍ من جحيم أدمناه منذ سنوات بعيدة؟
نكون؟ ومن سنكون، وكيف سنكون؟ محشورين على جبل الهاوية في عين قناصي الحرية يمضغون الرصاص والجمال الميت؟ أم في الشوارع المترمدة بالأبناء قديسي الحروب، والأمهات وهن يدبكن على خشبات المسارح الآيلة للسقوط، علهن يرقصن أرواح أولادهن من غيبوبة الأدوار التي لعبوها أمام الحشود في مهرجانات التقمص؟
صباح الخير على الكتابة وأساطينها وهم ينزاحون في نصوصهم عن تدوين وابتكار شخصيات ماتت وتحولت إلى كليشيهات السوق الموارب.
صباح الخير على الإخراج والمخرجين وهم يطبخون شكسبير وجان جينيه وبيكيت ومارلو وبولغاكوف على نار بصرية مبتكرة هادئة في موقد ناري لين وطري، حيث يضاء العقل وتسمو الروح.
صباح الخير على الممثل، روح المسرح وسر أسراره، وهو يعيد كتابة صوته وجسده بكثافة تعبيرية وإشارية مبتكرة بعيدا عن متحف السوق ومجانية التمثيل السوقي، محلقاً بروح إنسانية رفيعة من اللعب الصاخب إلى معابد جلال أسئلة الروح الملتاعة الكبرى وحيرتها صعوداً إلى نهار دموع الأحزان.
عندما سلطت بروجكترات الوجع على المناخات الوحشية ونضوج طبخات الجهل والنزاعات الطائفية وسقوط البلدان في تقاسيم الجوع وفقدان الحقوق المدنية وانزياح شجرة الثقافة عن اهتمام المتنفذين في قرارات الرأسمال الذي سقط في حضرة الظلمة، الظلمة التي أدت إلى هجرة أعداد كبيرة من رجالات الثقافة من سينمائيين ومسرحيين وتشكيليين وموسيقيين إلى بلدان غير بلدانهم، تاركين وراءهم يباسا مفزعاً، وفقدان أمل يلوح على شاشة مستقبل بلا روح ولا حرية ابتكار، الأمر الذي أوقع جيلاً شبابياً مبتكراً في هاوية اللاجدوى، يلوكون أحلامهم ومستقبلهم الجمالي في وحشة كبيرة تحت ظلال شجرة العوز و الأمل الميت، تتناقلهم الهجرة إلى بحار ترميهم في تيهٍ جحيمي بعيدين عن بلادهم وأهلهم، يلوكون الغربة كعشبة مرة ونزيف حار في تواريخهم وبحوثهم وقتالهم من أجل استكمال مشاريعهم الإبداعية، إنها السلطة الثقافية الرسمية التي ترمي سجادة جهلها في الشوارع والمقاهي والمؤسسات والبيوت في واقع سياسي استثماري، يرسخ قيم اللصوصية وسرقة المال العام والرشوة والتزوير وبزوغ ميليشيات مدربة على سرقة حياة التنوير، واستبدالها بمناخ مأتمي، ظلامي، يتخبط في أزقته الجيل الجديد، كخطيئة مقدسة ومعدمة، لجمهور عربي صار بلا أردية جمالية وبلا خيال، ساد التردي في سويات التلقي واللهفة للمسرح الحقيقي، وتأسست فجوة تأريخية بين الرغبة في النهوض الجمالي في أعمال عدد من المبدعين العرب، واتساع التفاوت المعرفي في أولويات الجمهور، حتى أصبحنا بلا أرضيات فلسفية وجمالية، تساعد الناس على إعادة كتابة موروثهم العظيم ومستقبل الحداثة النصية.
لقد هوت شجرة المعرفة المسرحية وسقطت سقوطاً مدوياً، ليحل محلها ثقافة الغريزة والسعي للرفاهيات السياحية، وبروبوغاندا سياحية ضخمة، بيوت، سواحل، سيارات، بنوك بتقنيات عالية، وانهيار مدوِ ثقافي حيث لا أثر لوجود دار أوبرا ولا مسرح ولا مكتبات موسيقية أو غاليريات تشكيلية في شوارع المجتمع المدني.
لقد تم إدارة عنق اللذة والمتعة نحو المعدة وليس الرأس المشتعل بالفنون، حيث يتسابق الناس، كما في الكثير من الدول الأوروبية لحضور أوبرا كارمن مثلاً، أو أحدب نوتردام.
ها هو الممثل الكوني، يجر وراءه شعوباً من الكورونا وعربات النصوص ونبوغ الممثلات والممثلين، المخرجين والسينوغرافيين، وكشافات ضوئية وملابس وجمهوراً حاشداً عتيداً، الآن أراه متفحماً وسط عاصفة التصفيق المر أمام دار الأوبرا قرب البرج الذري، يجالس الشعاع النووي، بينما يتمرن ماكبث على الفوطبول، يلاعب لحية دستويوفسكي، ويحلق رأس مال كارل ماركس، يطري سخط بولغاكوف، هناك وهنا، تمددت الحشود على ألوان من كمامات، تستغيث بالفايزر والسبوتنيك، ها هم، وها نحن نتمرغ تحت درجات حرارة جحيمية، الناس فيها يتوسلون ولو دقيقة كهرباء يمكن أن تنعش اختناقاتهم، أو ربطة خبز لمطابخهم، بينما المليارات محمولة على أكتاف سادة شبهات السوق الاستثماري، يتاجرون بنا، غازاً وبترولاً، تاركين وراءهم شعوباً تحترق وفتياناً يحتضرون في طوفان القطارات والبحار والغرق، بحثاً عن كينونات أُخرى.
إذن عن أي مسرح وعن أي ثقافة سنتحدث، ما دامت كل الدروب غير سالكة، والحكام أبلوا بلاءً حسناً في ترسيخ ثقافة القطيع والبروبوغاندا الملوثة؟
ها هم نراهم، يهرولون بين البورصات، أولئك المستثمرين في جوعنا وعرينا، يكدسون مليارات الدولارات في مواخير مطبخهم الشديد العفونة، نعم، أراهم كيف يعلقون الثقافات والمسارح على مشانق (سبونسراتهم – داعميهم) العقيمة، ويبلطون الدروب والساحات بأسمنت الجوع والفقر، حكام يجلدون التنوير والمدنية والمؤسساتية والحرية برفاهيات وإعلام مزور ويدفنون بلدان الأساطير والجمال في مقابرهم العفنة.
هل من أنشودة لأمل منشود؟
هل من مطر على أرض تعيد خصوبتها؟
هل من غيم يلقي على البشرية سلاماً أليفاً وشعوباً آمنة؟
هل من عاصفة تكنس الجهلة ولصوص الخراب؟
هل من شمس تشعل العالم برقصة كونية وبشرٍ كونيين، شغوفين ومغرمين بالمسرح، ملاذنا العظيم؟
هل سنة العام القادم سنة مسرح يضيء الدروب بجمهور يزهر ويحتشد ثانية أمام شباك التذاكر، يصيخون السمع للممثلين يهدرون بأداءٍ مسرحي متفرد تحت شجرة النور في كوكبنا الطيب الذي يتوسل الرحمة والعطف؟