الموت العدم المتخفي
كتب الأستاذ أحمد السطاتي ذات مرة :”الموت هو الحقيقة الثابتة والفاجعة الحقيقية التي تؤرق وتحير وتزعزع ما عداها من حقائق” بما في ذلك من حقيقة الحياة – فما قيمة أي حقيقة دنيوية يمحوها الموت ويذروها كما تمحو الرياح و تذرو كل نقش أو أثر على الرمال؟
هذا مثال لصرخة الإنسان وألمه حين يقف مشدوها عاجزا أمام أم الحقائق ألا و هو “الموت”، ولا يجدي شيء أمام هذا القدر الغامض.
وفي هذا يقول الشاعر :
وإذا المنَية أنشبت أظافرها *** ألفيتَ كل تميمة لا تنفع
حتى التفلسف الذي يظهر عند الأديب الوجودي “كامو” في روايته “الغريب”- للتغلب على الموت لا ينفع أحدا، فالموت لا يمكن تجاهله ولا تحديه، وكما قال شورون :”على الرغم من أن الإنسان قد يدرك تفاهته، فإن التفكير في الفناء أمر يصعب تحمله”.
ومن الطبيعي أن يهاب الإنسان – من حيث هو إنسان – الموت، ولذلك تجده أحيانا يتعلق بالحياة حتى في أشد حالات بؤسه، لكن وعي الناس بثقل الموت ازداد حدة في القرن الواحد والعشرين.
إن من أبرز تصور للموت موجود في التاريخ الإغريقي، مثلاً “الأوديسيا”، فهذه القصة الطويلة المصاغة شعراً، والتي تنسب إلى هوميروس، تتضمن وصفا عاما لمصير أرواح الموتى وشكل حياتها وحركتها، وهي صورة حزينة ومرعبة ومظلمة عن العالم الأخر، حتى بالنسبة إلى الأخيار من الموتى، والجدير بالذكر أن هذه الصورة كانت سائدة قبل ذلك في الشعوب الشرقية، خصوصا بمصر وبلاد الرافدين وسومر وشنعار (الإسم القديم للعراق حسب التوراة)، ويعتبر أفلاطون نموذج لهذا القلق من الموت، لذا بحث كثيرا مسألة الروح، وقدم أسطورة عن عالم ما بعد الموت مستلهمة من الأوديسيا، كما تناول موضوع الموت بصفة عامة.
وغير هذا توجد أسباب أخرى في الخوف من الموت يشترك فيها أكثر الناس، وقد لخصها إبن مسكويه في هذا النص، إذ يقول :”إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري الموت على الحقيقة، ولا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه، فقد انحلت ذاته، وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجودا، وليس هو بموجود فيه، كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد، أو لأنه يظن أن للموت ألما عظيما، غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه، وكانت سبب حلوله، أو لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات، وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها”.
ولا يستطيع العلم أن يجيب عن هذه المخاوف التي أشار إليها إبن مسكويه، مثله في ذلك مثل التفكير العقلاني المحض، ولهذا فعلم البارسيكولوجيا المعاصر- وهو أقرب العلوم “التجريبية” إلى هذا الموضوع – لم يقدم لنا شيئا ذا بال عن الموت وما وراءه، ولذلك يظل الدين مصدرنا الأساس في هذه القضايا، وما شابهها – فماذا يقول لنا ؟
أولاً : الموت في المعتقد الإسلامي.
إن الموت في الدين الإسلامي – مجرد رحلة عابرة، وليس شيئا ثابتا أصيلأ في الوجود، حتى وجود الإنسان في القبر هو وجود حي لا موت فيه، ومع ذلك فهو مؤقت ينتهي بالحشر والانبعاث، ولذلك يقول علماء الإسلام :”الموت معناه تغير حال فقط”، وفي الأثر :”إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار”.
قال القرطبي :”الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرفا، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل الحال وانتقال من دار إلى دار”.
أما حقيقة هذا التغير وماهيته فمن شؤون الغيب المستور، يقول أبو حامد الغزالي:”..نعم،لا يمكن كشف الغطاء عن كنه حقيقة الموت، إذ لا يعرف الموت من لا يعرف الحياة، ومعرفة الحياة بمعرفة حقيقة الروح نفسها وإدراك ماهية ذاتها، ولم يؤدن لنبي الإسلام أن يتكلم فيها، ولا أن يزيد على أن يقول :”الروح من أمر ربي”، فليس لأحد من علماء الدين الإسلامي أن يكشف عن سر الروح وإن اطلع عليه، وإنما المأذون فيه ذكر حال الروح بعد الموت”.
وإذا كانت الحقيقة العميقة للموت مجهولة لنا، فإن الشارع الإسلامي ضرب لنا مثلاً قريبا إلينا، فقال نبي الإسلام :”النوم أخو الموت”، ولذلك جاء في القرءان :”الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها،فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى إلى أجل مسمى، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”.
نحن في المنام نخرج من إطار الزمان، أو على الأقل – من إطار الزمان العادي و كذا من العالم الذي نعرفه، فلا نعود نحس به، ولذلك لا يخضع الإنسان – في نومه – لقوانين العقل ولا لمنطق عالم الشهادة والدنيا، فهذا يقدم إلينا فكرة عن انتقالنا بالموت من حال إلى حال، وكذلك النوم نوع شبيه بالموت، وطالما كان هذا النوم لغزا حير العلماء الإحيائيون إلى حدود الساعة، فسيظل الموت لغزا آخر، أكبر وأعقد.
ثانياً : الموت في الرسالة التبشيرية المسيحية.
الموت في المسيحية لا يعدوا إلا انتقالاً من حياة إلى أبدية في شخص يسوع المسيح، قاهر الموت الذي صلب ومات وقبر ثم قام من الأموات حسب الأناجيل والكتب التاريخية اليونانية،لذلك فالموت كما عرفه القديس أغسطين :”هو أبدية منتظرة لكل من أمن بيسوع المسيح كمخلص له”.
المسيحيون الحقيقيون هم أكثر الناس استعداد للموت الجسدي، لأنهم يعيشون حياتهم الأبدية هنا على الأرض، وسيكملونها في السماء بالحضن السماوي الأخروي أي ملكوت الله،إذ يسوع المسيح هو ضامن الأبدية للمؤمنين به كما في أخر صلاة له بإنجيل يوحنا (17).
فماذا يحدث لنا بعد الموت ؟
الكتاب المقدس يجيب – يقول الكتاب المقدس: «الأحياء يعلمون أنهم سيموتون، أما الأموات فلا يعلمون شيئا». (جامعة 9 : 5؛ مزمور146:4) فالموتى لا يفكرون أو يشعرون أو يفعلون شيئا، أي أنهم زالوا عن الوجود،إلى التراب عادوا كما أوخذوا منه، فحين تمرد الإنسان الأول آدم، قال له الله: «أنك تراب وإلى تراب تعود» (تكوين 3 : 19) وهذه العبارة توضح لنا ما يحدث عندما نموت،فقبل أن يخلق الله آدم «من تراب الأرض»، لم يكن له أي وجود (تكوين 2 : 7)،لأن الوجود بالإنسان و بغيره لا يكون هناك وجود على حد تعبير الفيلسوف الوجودي سارتر، وبالتالي عندما مات آدم،عاد إلى التراب، أي زال عن الوجود.
صح الأمر عينه في كل من يموت، فالكتاب المقدس يقول عن البشر والحيوانات كليهما : «كانوا كلهم من التراب، فيعودون كلهم إلى التراب».(الجامعة 3 : 19 – 20)، والموت ليس بالضرورة نهاية كل شيء،فدائما ما يشبِّه الكتاب المقدس الموت بالنوم. (مزمور 13 : 3 يوحنا 11 : 11 – 14 أعمال 7 : 60) فكما أن الغارق في نوم عميق لا يعي ما يحدث حوله،كذلك الموتى لا يعلمون شيئا،لكن الكتاب المقدس يعلِّم أن الله قادر أن يوقظهم كما لو أنهم نيام ويعيدهم إلى الحياة. (أيوب 14 : 13 – 15) وبالنسبة إلى الموتى الذين يقيمهم الله، لا يكون الموت نهاية كل شيء، بل هو عدم متخفي !
محمد سعيد: باحث في مقارنة الأديان