المقدس والدنيوي
كان “إميل دوركاييم” أول من عرف ثنائية المقدس والدنيوي في كتابه “الأشكال الأولية للحياة الدينية” سنة (1912) “les formes elemenaires de la vie religeuse” على أنه السمة الأساسية للأديان،لقد نظر إلى الدين على أنه حاملا للمقدس،بينما نظر للمقدًس كحامل للنظام الإجتماعي و للتوازن،حيثً أصبح المقدًس في ذروة البنية الإجتماعية،إن المقدس في تصور “إميل دوركاييم” جماعي و متماثل مع الديني،لذا فإنه مميز بالتعالي عن حياة الأفراد،و هو الوجه المفارق و المتعالي لحياة الجماعة الدنيوية،و بسبب سماته و خصائصه تلك،لا يستطيع التعايش مع ما يعارضه و ينقده.
لقد عملت الأبحاث الكثيرة التي جاءت بعد “إميل دوركاييم” على رفع الفصل و التعارض بين المقدس و الدنيوي،و رفع التماهي و المماثلة بين المقدس و الديني،من بينها أبحاث “ميرسيا إلياد” من خلال كتابه “المقدس و الدنيوي” حيث إعتبر أن المقدس لا يتماثل مع الإلهي،بل هو تجلي له،و هو ما عبر عنه بتجلي القداسة “hierophanie”،إنما يعرف الإنسان المقدس لأنه يتجلى،يظهر كشيء يغاير الشيء العادي مغايرة تامة،فتاريخ الأديان يتألف من تراكم أحوال تجلي المقدس من التجليات البدائية كتجلي القداسة في الحجر و الشجر و البقر عند بعض المعتقدات الإجتماعية..،حتى تجلي القداسة العليا الماثلة عند المسيحيين من خلال تجلي الذات الإلهية في يسوع المسيح،فالمقدس هنا هو تجلي للمتعالي في الزمان و المكان.
يبدأ “مارسيا إلياد” تصوره للمكان و الزمن المقدس بهذه الفرضية الأساسية :
إن المجال غير متجانس بالنسبة للإنسان المتدين،فهناك إنقطاعات و انكسارات و أجزاء للمكان تختلف نوعيا عن بعضها،و أن قدسية الزمن لا تقل أهمية عن قدسية المكان،فهناك فترات زمنية أفضل،كزمن الأعياد مثلاً،و يوجد من جهة أخرى الزمن الدنيوي الذي تسجل فيه الأعمال المجردة من الدلالة الدينية،و لكن الإنسان المتديَن يستطيع بواسطة الشعائر المرور من المدة الزمنية العادية إلى الزمن المقدس،و هكذا يتم تجاوز التنائيات المتعارضة،و من ثم إعلان أشكال التواصل القائمة بين المقدس و الدنيوي،فالكنيسة مثلاً هي جماعة المؤمنيين أصلاً،و هي تمثل حضور الله (المقدس) بامتياز من خلال الصلاة يوم الأحد،فيوم الأحد مثلاً،هو وقت منقطع من الزمن الطبيعي من خلاله يعيش المسيحي حالة إتصال إلهي ظرفي في إنتظار الأبدية.
إن ظهور المقدس في المكان و الزمان له قيمة كونية،فالمسيحي له حنين عميق بأن يسكن عالما “إلاهيا”،أن يعيش في كون طاهر مقدس،فالعطش الأنطولوجي و المعرفي جعل المسيحي يرغب في أن يقيم في قلب العالم مع وحدة مع الله حسب أخر صلاة للمسيح بإنجيل يوحنا (17) ليكون قريبا من المتعالي،و يرجع ذلك إلى كون المقدس يعادل القوة بالنسبة له،و في النهاية يمثل الحقيقة بامتياز.
إن الإنسان المتدين متعطش للكينونة،و يرعبه السديم الذي يحيط بعالمه كامتداد لا شكل له،فبدون المقدس يشعر بنفسه مفرغا من الداخل،كما لو أنه ذاب في السديم و انتهى،و حتى الإنسان الدنيوي فهو سليل الإنسان المتدين لا يستطيع إلغاء تاريخه الخاص،أي سلوكات أجداده المتدينين،الذين أترو فيه كما هو عليه الأن.
إن فكرة المقدس و الدنيوي هي الفكرة التي تعبر عن التابث في التاريخ الديني،فكل المعتقدات الدينية بسيطها و مركبها تنطوي على خاصية عامة مشتركة،فهي تفترض تقسيما لكل الأشياء المرئي منها و الغيبي إلى قسمين،قسم المقدس و قسم الدنيوي،و أما النتيجة فستكون حتما أن الثابت في تاريخ الأديان كلها هو إزدواجية الوجود و ثنائية العالم،عالم الميتافيزيقيا و الواقع،أما المتغير في المعتقدات كلها منذ بدائية الإنسان المتدين إلى أخر الأديان هو تجلي القداسة الذي يجعل إمكانية المرور من الدنيوي إلى المقدس،و من المقدس إلى الدنيوي حاضرة على الدوام.
و بناءا على هذا،و لمقاربة الأديان و التعبيرات الدينية إنطلاقا من مقاربة إنسانية،يعتبر “مارسيا إلياد” أن تاريخ الأديان مدعو إلى أن يلعب دورا مهما في الحياة الثقافية المعاصرة،ليس لأن فهم الأديان الغربية و الأجنبية ستساعدنا مساعدة ملموسة في الحوار مع ممثلي تلك الأديان،بل لأن مؤرخ الأديان – إلى جانب ذلك – و هو يحاول فهم الأوضاع الوجودية سيلج حتما إلى معرفة أكثر عمقا بالإنسان،و بمثل هذا الفهم تصبح الإقليمية الثقافية متجاوزة،و يمكن لنزعة إنسانية جديدة قائمة على أساس مثل هذه المعرفة أن تتطور على الصعيد العالمي،فهو يتوخى إعادة إكتشاف الإنسان الديني (i homo religiosus) في عصر يسير شيئا فشيئاً نحو إعادة إحياء الروحية الإنسانية.
فإذا كان “الفينومنولوجيين” حسب مارسيا إلياد،يهتمون بدلالات المعطيات الدينية،فإن المؤرخين من جانبهم،يحاولون تبيان الكيفية التي بها أحس الناس بتلك الدلالات و عاشوها في الثقافات المختلفة و اللحظات التاريخية المتنوعة،و كيف تغيرت و اغتنت أو افتقرت خلال مجرى التاريخ،و الحالة أنه إذا أردنا تجنب السقوط في “اختزالية متجاوزة”،يجب علينا دائما أن نعتبر تاريخ الدلالات الدينية هذا،جزءا من تاريخ الفكر البشري.
إن الإنسان الديني يمثل الإنسان الكلي،و بالتالي يجب استعمال جميع النتائج التي أسفرت عنها مختلف المناهج المتبعة في مقاربة الظاهرة الدينية،و أن تُجمع هذه النتائج و يؤلف بينها،فلا يكفي أن يدرك الدارس معنى ظاهرة دينية في ثقافة ما،و أن يعمد من ثم إلى فك ألغازها،بل يجب عليه أيضاً دراسة تاريخها،أي تفصيل مسارات تغيراتها و تبدلاتها،وصولا في نهاية الأمر إلى استخلاص مساهمتها في الثقافة بكل تنوعاتها.
فالمسيحيون مثلاً اليوم يعيشون المقدس و الدنيوي،و يفرقون بينهما بدون تأثير أحداهما على الأخر.
محمد سعيد : عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية