2 نونبر 2024

القنيطرة.. ندورة وطنية حول “العلوم الاجتماعية والمسألة البيئية: قضايا ومقاربات”

القنيطرة.. ندورة وطنية حول “العلوم الاجتماعية والمسألة البيئية: قضايا ومقاربات”

لا شك أن المسألة البيئية قد أصبحت، منذ بضعة عقود، في قلب انشغالات ورهانات المجتمعات المعاصرة، بل ومحوراً لتقاطباتها السياسية والأيديلوجية في بعض الأحيان. وبالأخص، بعد ارتفاع معدلات الاحتباس الحراري، وتزايد نسبة التلوث في الهواء والتربة والماء، وتصاعد وتيرة الاجهاد المائي، والتآكل غير المسبوق للتنوع الحيوي، والاستنزاف الفظيع والمفرط للموارد الطبيعية. إذ لم يعد ينظر إلى هذه المعطيات الإيكولوجية الجديدة، على أنها مجرد اضطراب مناخي عابر أو اختلال مؤقت في توازن المحيط الحيوي، بل بعدِّها مؤشرات قوية ودلائل ساطعة على تصاعد احتمالات وقوع كارثة حقيقية تهدد فرص بقاء الجنس البشري وتقوض إمكانات إعادة إنتاجه فوق كوكب الأرض.

فاستعادة الوعي بخطورة مآلات هذه الأزمة، والانتباه إلى ضرورة عدم الاكتفاء بالتشديد فقط على أبعادها المناخية والصحية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية ، بعد أن أصبحت “مشكلة وجودية”- أي مهددة للوجود البشري نفسه- هو ما يفسر تنامي الدراسات والأبحاث والتقارير التي تسعى إلى استجلاء أبعاد هذه الأزمة وسبر أغوارها في أفق استكشاف طرق وسبل تجاوزها أو على الأقل الحد من آثارها التدميرية إلى حين؛ وذلك على غرار دراسات وتقارير “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” (UNEP)، وخبراء”الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ” (GIEC)، و”المنصة الحكومية الدولية للعلوم والسياسات حول التنوع الحيوي وخدمات النظم الإيكولوجية” (IPBES)، والمنظمات البيئية غير الحكومية الدولية المختلفة…الخ. إذ تحاول هذه الدراسات والتقارير التوسل بمختلف أدوات التحليل وشبكات القراءة التي تم نحتها وتطويرها داخل مختلف الفروع العلمية المختلفة، مقاربة هذه الأزمة البيئية الّتي تختزل وتكثّف العديد من ملامح وأوجه واقع المجتمعات البشرية الذي يتعاظم تعقيدا.

ويبدو مفيداً هنا التشديد على كون بعض العلوم الحقة والطبيعية (البيولوجيا، الجيولوجيا، الإيكولوجيا…) امتلكت منذ زمن طويل زمام السبق العلمي والمعرفي في تناول المسائل البيئية، لارتباط موضوعها الوثيق بذلك؛ وذلك خلافاً للعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تأخر اشتغالها على هذه التيمة، على الرغم من انتباهها منذ اللحظات الأولى لنشأتها لمتغيري الوسط والمجال في دراساتها للموضوع الإنساني والاجتماعي، مثل حديث دوركايم عن المورفولوجيا الاجتماعية، وتناول جورج زيمل لموضوعة الإيكولوجية البشرية. لكن تفاقم الأزمات الإيكولوجية، منذ ستينيات القرن الماضي، سيساهم في تعميق اهتمام وانشغال العلوم الاجتماعية بموضوعة البيئة، خاصة بعد أن تبين أن هذه الأزمات أصبحت تهدد استقرار وتوازن البناء الاجتماعي للمجتمعات البشرية بشكل غير مسبوق، وتحديداً منذ أن تشكل نوع من الإجماع العام، داخل الجماعة العلمية وخارجها، حول مسؤولية الانسان عن هذا التدهور البيئي المتفاقم، نتيجة أنشطته التدميرية المختلفة. وهو ما أفضى، بالتبعة، إلى ظهور مفهوم “البصمة الإيكولوجية”، وتنامي الخطابات التي تسلم بانتقال البشرية من عصر الجيوسين (Géocène) إلى عصر الأنثروبوسين (Anthropocène)، كإشارة إلى كون تأثير الأفعال والأنشطة البشرية الحالية على الكوكب وأنظمته الإيكولوجية، قد تجاوز بكثير تأثير العوامل الطبيعية والجيولوجية. لذلك، فلا غرابة أن تتنامى، منذ ستينيات القرن الماضي، فروع معرفية داخل العلوم الإنسانية والاجتماعية، ستتخصص في دراسة هذا الـتأثير المتبادل بين الإنسان وبيئته، مثل سوسيولوجيا البيئة، وأنثروبولوجيا البيئة، وعلم النفس البيئي، والاقتصاد البيئي.

في المقابل، يبدو أن الاعتراف الأكاديمي والمؤسساتي بهذه الفروع المعرفية المختلفة، وغزارة الدراسات التي أنجزت في إطارها، لا يعني أنها تجاوزت هشاشتها المعرفية أو أنها حسمت في عدد من القضايا ذات الطابع النظري والإبستملوجي وعلى رأسها قضية/سؤال الموضوع. إذ كيف لعلوم اجتماعية تأسست على مسلمة التمييز بين الإنساني وغير الإنساني، وبين الاجتماعي وغير الاجتماعي، وبين الطبيعي والثقافي مثلاً، أن تتناول موضوعاً غير إنساني كالبيئة؟ ألم يتأسس علم الاجتماع على القول باستقلالية “الاجتماعي ” (l’autonomie du social)، وعلى التسليم بضرورة تجنب ربطه بما هو غير اجتماعي سواء كان من طبيعة جغرافية-إيكولوجية أو بيولوجية-عضوية؛ بحجة ان إدخال أي عنصر من هذا النوع في سيرورة بناء الموضوع السوسيولوجي أو التشديد على قوة تأثيره خلال عمليات التحليل والتأويل والتفسير، سيجعل علم الاجتماع، باعتباره علماً انسانياً واجتماعياً، يفقد خصوصيته المعرفية. بلغة أخرى، إذا كانت البيئة كياناً غير إنساني وغير اجتماعي، فكيف يمكن للعلوم الاجتماعية دراسة ومقاربة موضوع يختلف “أنطولوجيا” عن المجتمع الإنساني، دون أن تهدد هويتها المعرفية وسبب وجودها وتميزها كعلوم اجتماعية؟
علاوة على ذلك، إذا كانت هذه العلوم الاجتماعية لا تدرس البيئة في حد ذاتها- على غرار ما تقوم به العلوم الطبيعية والبيئية- بل تدرسها من زاوية الآثار الاجتماعية الناتجة عن طبيعة العلاقة والتفاعل بين الكائن الإنساني وبيئته في المجتمع المعاصر، فهذا يدفع للتساؤل حول كيفيات تحديد الطبيعة “الاجتماعية” لتلك الآثار وطرق تمييزها عن نظيراتها “غير الاجتماعية”، أي تلك التي يمكن اعتبارها مجرد استجابات تلقائية، وردود فعل طبيعية تميز كل الكائنات الحية.

من جانب آخر، إذا كانت المسألة البيئية تطرح نفسها اليوم كأزمة/كارثة أولاً وأخيراً، فما هو حجم مسؤولية الأنساق السياسية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية في تفاقمها؟ ولماذا نلاحظ عجزاً واضحاً للسياسات العامة والاستراتيجيات القطاعية والسلوكات البشرية في التخفيف من وطأتها؟ وهل يمكن الرهان على التنشئة الاجتماعية والتربية البيئية في وقف هذا التدهور البيئي الحالي؟.

ضمن هذا الأفق العلمي العام، وتفاعلاً مع الأسئلة المطروحة أعلاه، ارتأى فريق البحث حول “المجالات الترابية والديناميات الاجتماعية” بمختبر “الانسان والمجتمعات والقيم”، بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالقنيطرة، تنظيم ندوة وطنية بتنسيق مع شعبة الأنثروبولوجيا بذات الكلية، يوم الأربعاء 6 مارس 2024 حول “العلوم الاجتماعية والمسألة البيئية: قضايا ومقاربات”، في أفق المساهمة في إغناء النقاش حول أبعاد المسألة البيئية بعدة منهجية ومعرفية صارمة ورصينة. لا تسمح هذه العدة بالتحرر فقط من سطوة وجاذبية الأطروحات التي تشكك في وجود الأزمة البيئية، بل وتساعد أيضاً على الابتعاد عن خطابات السياسيين ورهاناتهم، وعن لغة المصلحة وحججها، وعن حماس وطوباوية بعض ناشطي المجتمع المدني، وتمكن من الانفلات من شراك وفخاخ أرقام وجداول وإسقاطات الخبراء المطمئنة منها والمفزعة.
خلال هذه الندوة الوطنية، سينكب المشاركون على مناقشة إحدى المحاور الأولية التالية: البيئة موضوعاً للعلوم الاجتماعية إشكالات المقاربة، المسألة البيئية والتحولات الاجتماعية، الحركات الإيكولوجية المعاصرة، التربية البيئية والمواطنة الإيكولوجية.