2 نونبر 2024

الصوم والإفطار بين القسر والاختيار

الصوم والإفطار بين القسر والاختيار

صلاح الوديع

يوم جالستُ الفقيه الريسوني منذ ما يزيد على سنة واستمعت إليه، كان النقاش جديا – من ضمن ما كان – حول علاقة الدين بالمجال العام والمجال الخاص. وكانت رؤانا مختلفة، بل ومتباعدة في العديد من القضايا. لكن الاحترام كان سيد الموقف حتى عندما ترحمتُ برحمة الله الواسعة على الفقيد الراحل أبراهام السرفاتي، باعتباره أحد المناضلين الأفذاذ المغاربة اليهود المكذبين لأسطورة اصطفاف كل يهودي كان وراء المشروع الصهيوني.

لكنني لم أكن أنتظر مثل ما سمعته عن خرجته الأخيرة، وبحثت عنها حتى شاهدتها على اليوتوب.

لقد أقر السيد الريسوني بأن أمر الصيام من عدمه أمر خاص يدخل في دائرة الاختيار الشخصي. ولا دخل لأحد به، وهو الأمر الذي دافع عنه في السابق العديدون. وموقفه، بالمناسبة، متقدم حتى عن بعض الأصوات التي ندت عن الحزب الذي ينتمي عقديا لنفس المرجعية.

لقد حاولتْ بعض المبادرات في السابق أن تطرح الموضوع بطرقٍ غالبا ما استعمِلَ طابعها المباشر من طرف البعض بهدف التشويش على النقاش في العمق بمسميات مثل “الإفطار العلني” في مقابل ما يمكن فهمه “كإفطار سري”. والحال أن الامر يتعلق لا أقل ولا أكثر باختيار الأفراد ممارسة الشعائر الدينية أو الامتناع عنها بكل حرية، لا يحدد سلوكهم إلا ما تمليه ضمائرهم، لا ما تمليه الدولة أو يفرضه الوسط الاجتماعي.

إن ما يثير في النقاش كذلك هو تعلُّل البعض بمقولة “الاستفزاز” أي استفزاز الصائمين من طرف “المفطرين” والحال أن نماذج أخرى تؤكد التعايش الممكن والبديهي منذ زمان. وخير مثال على ذلك ما هو جار به العمل في أندونيسيا وهو بلد يعيش فيه أكثر من 220 مليون مسلم إلى جانب ديانات أخرى تعتنقها أقليات دينية، حيث يتعايش الجميع ويمكن أن يتجاوروا حول مائدة واحدة وفي كل الأوقات مع احترام كل واحد لاختيارات الآخر دينيا وشعائريا وسلوكيا. وعليه يجب البحث عن أسباب التوتر المسمى بغير وجه حق “استفزازا”، في مكان آخر.

في هذا الإطار يكون للموقف الجديد للسيد الريسوني أهميته التي يجب تسجيلها، باعتباره أحد الأصوات المنتمية إلى المشروع الإسلامي، خاصة في ضوء النقاش الدائر اليوم حول مشروع القانون الجنائي. وما لا يعرفه الكثيرون في هذا الصدد هو أصل القانون المعاقب على الإفطار وواضعه ليوطي المقيم العام. فهو أقدم على ذلك كي لا يجعل من تناقض ثانوي يتعلق بأكل الفرنسيين في رمضان، سببا للاضطراب وللإضرار بالمشروع الأهم: استعمار المغرب.

في العمق، الأمر وما فيه أن الدين يجب أن يكف عن أن يكون أداة للحكم وبسط النفوذ أكان من الدولة أو من طرف الفرق السياسية ذات المرجعية الإسلامية. ومهمة الدولة الديمقراطية المدنية في البدء والمنتهى هو أن توفر الضمانات المادية والمعنوية لكل مواطن من أجل حقه في ممارسة أو الامتناع عن ممارسة الشعائر الدينية، بلا قسر أو إكراه من أحد.

بقيت نقطة لا بد من التأكيد والتسطير عليها بكل ألوان الحبر: ليست الدولة هي فقط من مطلوب منها أن ترفع يدها عن الأمر، بل المجتمع كذلك. لا بد لكل داع إلى احترام حرية الضمير والمعتقد وما يترتب عنهما من ممارسةٍ أو تركٍ للشعائر الدينية، لا بد له من أن يتبرأ من “عدالة الشارع” التي تقدم نفسها في شكل “فرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وما ينز عنها من نزوعات وهابية، قد تصبح في وقت ما ورما خبيثا منتشرا في الجسم كله، لا يبقي ولا يذر.

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *