“السير جنوبا باتجاه الشمال” مذكرات موريتاني معتقل سابق لدى “البوليساريو” الحلقة (5)
محمد فال القاضي أكاه واحد من الموريتانيين ضحايا “البوليساريو” والجزائر في الفترة ما بين 1975 – 1999، “المغربي اليوم”، ينشر على حلقات جزءا من تجربته المريرة في سجون العار والتي ضمنها فال في حلقات ضمن كتابه “السير جنوبا باتجاه الشمال”.
يتحدث محمد فال القاضي أكاه الموريتاني الجنسية وهو من مواليد 1960 خلال هذه الحلقات عن تجربته الخاصة بعد الانضمام إلى جماعة “البوليساريو” الانفصالية وعما عاشه وعاناه من ممارسات ترفضها الشرائع السماوية والقوانين الإنسانية في معتقلات “البوليساريو” بالجزائر.
الحلقة (5)
الهروب من المجهول
كنا في ذلك اليوم قد حصلنا على وثائق للعبور نحو غينيا بيساو وكان يفترض أن ننتظر عودة المسمى (فريد) ليصحبنا معه في السيارة إلى وجهتنا غير أننا وجدنا انفسنا في حدود الواحدة ليلا نعيش حالة استنفار ورعب لا مثيل لهما فقد عاد مرافقنا في ذلك الوقت المتأخر من الليل ليوقظنا من النوم ويخبرنا بأن علينا الرحيل في الحال وإلا تعرضنا للاعتقال على يد الأمن السنغالي وتم تسليمنا للمخابرات المغربية وقد ادعى بأن هناك شخصا موريتانيا يتابعنا وبأنه على علاقة بصاحب الدار الذي يستضيفنا وقد نصحه بأن نخرج حتى لا نعتقل في داره ، وبطبيعة الحال فقد صدقنا هذه المسرحية قبل أن نكتشف بعد سنين بأنها من نسج خيال من باعنا مرتين .
خرجنا من الدار مذعورين واتجهنا إلى الشارع للبحث عن سيارة أجرة تقلنا إلى المحطة الطرقية الرئيسية وكنا محظوظين بالحصول عليها حيث أن المنطقة التي نحن بها تقع في أطراف المدينة وهي من الأحياء الراقية التي تقل فيها حركة سيارات الأجرة بحكم الطبقة التي تسكنها ، وقد فشلنا في اقناع سائق سيارة الأجرة التي أوقفناها بأن يحملنا نحن الخمسة دفعة واحدة مدعيا أن القانون لا يسمح له سوى بأربعة أشخاص فاقترحنا عليه دفع الأجرة مضاعفة كي يقبل وقد أعطى الاقتراح ثماره .
وصلنا في حدود الساعة الثانية والنصف ليلا المحطة الرئيسية في دكار المعروفة بمحطة (المطافئ) وكانت شبه خالية وكان علينا أن نبحث عن سيارة متوجهة إلى مدينة زيگنشور (عاصمة إقليم كاساماس) القريبة من حدود غينيا بيساو حيث أخبرنا مرافقنا بأنه اتصل بزميله (فريد) وأنه سينتظرنا بالسيارة هناك وبعد بحث وجدنا سيارة ستتجه إلى المدينة نفسها إن توفر لديها العدد الكافي من الركاب و الذي مازال مقتصرا على راكب واحد فقررنا أن ندفع ثمن التذاكر للمقاعد المتبقية كي نسلك الطريق في اسرع وقت قبل أن ينكشف أمرنا على حد تعبير مرافقنا الذي سيعود أدراجها بعد أن تتحرك بنا السيارة ، بل أذكر أنه كان يقف بعيدا منا وقال إنه سيراقبنا من بعيد حتى نرحل بدعوى أنه إذا حدث الأسوأ وتم اعتقالنا تكون لديه الفرصة للابلاغ عن قضية الاعتقال المزعومة .
خلال الرحلة التي دامت لأكثر سبع ساعات من دكار حتى الحدود الغابونية كنت كلما توقفت السيارة عند حاجز للتفتيش أيقنت أنها الأخيرة وتخيلتنا مقيدين نساق إلى مخفر ليتم تسليمنا إلى المجهول وذلك لكثرة ما أشعرنا مرافقنا بأننا معرضون للخطر ، وأذكر أننا ونحن نخرج مع بزوغ الشمس من مدينة كولخ في الشرق السينغالي شاهدت شرطيا أمامنا وهو يستعد ليوقف السيارة التي نستقلها وفي لمح البصر تخيلت سيناريو مضحكا لأبعد به الرعب الذي أصابني ، وهو أن ذلك الشرطي سينزلنا من السيارة وفي المحضر سأخبرهم بأن عمي تاجر في هذه المدينة وقد جئت لزيارته مع أصدقائي ، وكنت أحدث نفسي بأنهم إن أخبروه بأمرنا سيتدخل لاخراجنا من المأزق ، و لا أنسى الهم الذي انزاح عن صدري وأنا أرى ذلك الشرطي وهو يشير للسائق بأن يواصل سيره . ومن المفارقات التي لم نكن نتوقعها أنه طوال تلك الرحلة التي عبرنا فيها أراضي ثلاث دول لم نضطر لإظهار وثائقنا سوى مرة واحدة .
في حدود الساعة الثالثة ظهرا وصلنا وجهتنا الأولى (مدينة زيگنشور) التي لا تبعد عن حدود غينيا بيساو أكثر من سبعة كيلومترات ، وحسب الخطة كان يفترض أن نجد بها السيارة التي ستقلنا إلى « بر الأمان » غير أن الصدمة كانت قوية إذ لا سيارة تنتظرنا وليس معنا من المال ما يكفي لمصاريف باقي الرحلة بل لا يكفي لأن نأكل ونشرب والجوع والعطش قد أخذا مأخذهما منا وبعد أخذ ورد ارتأينا أن أفضل تصرف نقوم به هو أن نأجر سيارة بالمبغ الزهيد الموجود معنا كي توصلنا الى الحدود حتى نكون في مأمن من « الخطر المجهول » الذي يتربص بنا ، وهو الأمر الذي نفذناه و وصلنا إلى الحدود لنبدأ معاناة جديدة من عدم القدرة على التواصل مع البشر إذ لا لغة هناك للتواصل سوى البرتغالية واللهجة المحلية فأصبحنا صما بكما .
ترقبوا في الغد الحلقة السادسة
ينشر باتفاق مع الكاتب محمد فال رئيس جمعية ذاكرة وعدالة التي تهتم بشؤون ضحايا سجون “البوليساريو” من الموريتانيين.