الحياة على مرمى …شريط!
نحن الذين نعيش معه ونصاحبه، نعرف أن حسن نرايس يجعل كل دقيقة لحظة “غودارية” وتنتسب إلى الريادي السينمائي جان لوك بامتياز، فهو لا يتنازل عن الحديث عن السينما، إلا لكي يتكلم عن أهلها، وفي النهاية يبحث عن مشتركاتهما في الحياة..
السينما ليست تمرينا، ليست سريرا للتمرين على الحياة، إنها الحياة في حكاية يعرف الكثير من أصحابها وصاحباتها..
وهي ذي الوصفة التي تحبب لنا .. الحياة ، ليس باعتبارها تقليدا للسينما بل لأنها في السنين الأخيرة صارت تحاكي الشاشات التلفزية الرديئة..هذه الحياة لا تجدها في الكتاب..
لهذا لا يفاجئك حسن نرايس عندما يقول : “لن أتحدث سوى عن السينما”، لكي يسند عندها إصراره بكلام من قبيل :” لماذا الحديث عن شيء آخر يا ترى؟ فبالسينما نتحدث عن كل شيء ونصل إلى كل شيء”..
كذلك فعل ، في كتابه الأخير.
يستدرجنا في البداية، حتى نكاد ننسى أنه وعدنا بذكرياته عن السينما والصحافة، يضع الديكور، كما يقول أهل الفن السابع، ثم يجعل من طفولته نوع من “السينوبسيس ” غير المعلن للكتاب..
إنه ساحر، ساخر
إذ منذ البداية يرمينا حسن في فخ ويستدرجنا إلى ذاكرته، كما يريد الإفصاح عنها و يعلن بأول فعل : “رموني…..” لكي يحيلنا على “رماني أهلي في الخلا وسموني ذو يزن”..
لا يكمل العبارة، لكنها ترن في الصدى العميق للخيال الجماعي، صدى مقصود، برنينه العاطفي الذي يستبد بالمخيلة السمعية..
نغوص في الكتاب، ثم نسأل : متى تبدأ السينما ؟
متى ندخل معه أول قاعة؟ نطل على أول شاشة؟
فترميه الصدفة إلى أختها الصدفة الشبيهة:هروب صديقه المخرج الذي جاء به إلى طنجة ، ثم لقاؤه ، بترتيب من الصدفة التي تجيدها السينما، مع محمد مزيان صديق العمر ، العملاق في عالم الأقزام ، ثم ظهور محمد شكري في الصورة وانتقال حسن من الهامش المؤلم إلى أضواء الحدث، هكذا يدخل إلى السينما والصحافة في نفس اللحظة، ….هنا في الضفة الجنوب المتوسطية بعد سيرة في الشمال القاري.. التي امتحن فيها حبه للفن والكتابة!
في الكتاب تعثر على كل الأسماء الكبرى
اللعبي
بنجلون
شكري
بادريس
لقطع
وتسأل مرة أخرى:
..متى يظهر نور الدين الصايل يا ترى؟
في ص40 بالذات، نكتشف أن الصداقة بدأت بعداوة ونقد وشراسة، ثم تحولت إلى أجمل علاقة في وسط لا تدوم فيه العلاقات إلا كعمر … الورد والجوائز!
تجد المفاجآت التي تسر ولا تسر
تجد “الجريدة” الاتحاد الاشتراكي الحضن ولكن أيضا ساحة المنع، تارة يسميها “الاتحاد” ، وتارة “الجريدة” ، هكذا في مطلق التعريف :حاضرة بقوة وبدون مجاملات : منع مقال حول مغني الحي باطما!
تحضر الفكاهة والمرح:
كما في قصة حكيم نوري و محمد مزيان
يقول الأول: je l’ai pas vu venir
ويرد الآخر: c’ est grave pour un douanier
يحضر مهرجان مراكش بكل تفاصيله وهوامشه
يحضر البار
وتحضر الجعة
ولا ماكياج يخفي الفضاء الموضوعي الذي تمثله أمكنة السهر والنميمة والضحك وصناعة الأوهام حينا والصداقات الجميلة أحيانا كثيرة..
لو فكرنا في تاريخ للسينما، تاريخ حي، مشاكس ، انزلاقي، منحرف، بأزيد من 180 درجة، نجد الكتاب تجربة سلسة في الكتابة، وفي العيش!
إنه أيضا كتاب يدور في الحديقة الخلفية في كواليس السينما، وهو، نوعا ما، الشريط النيجاتيف، للسينما كتاب شريط عن الخفايا ، لا يخلو من نزعة توثيقية ذكية، عندما تكون المعلومة تعلة وذريعة للسر..لما لا يعرفه الجميع!
انه كتاب مضاد للتاريخ الرسمي، للسينما ومهرجاناتها، ذلك التاريخ الذي لا يقول حقيقة تظل تسكن الشفهي .. ولا تصل إلى المكتوب بفعل منظومة من المواضعات والمتعارف عليه…
حسن ، في الكتاب كما لو أنه يجالسك:يكون قاسيا وبلا مواربة مع أولئك الذين يعتقدون، عن حق فظيع، بأن السينما ولجن الدعم مكان قانوني، وصحي لرمي … نفاياتهم!
لهذا تتكرر كلمة الرداءة في نقده لبعض المتطفلين..
ويكون مشبعا بالحس الإنساني في الحزن، في الوداع، في قاعة كبيرة تسمى حياة يغادرها الناس الأعزاء ،فيما هو مشغول بتدوين سيرتهم وتميزهم..
أختم بما كنت أعده للبداية :
لقد أمتعني الصديق الرائع حسن نرايس بهذا الكتاب الحي، متعة لم أفز بها منذ سنوات ، في ما يخص السينما، فهو كتاب يخرج عن المألوف، نحتاج فيه إلى كل الحواس، و إلى الحاسة السادسة، لكي نستكمل رسم الصور المتلاحقة فيها!
يتراوح بين التوثيق والسيرة والسيناريو أيضا! فيه الكثير من التأريخ الطازج، لا شك أنه سيكون له ما بعده، لأنه بكل بساطة كتاب جدير بالذاكرة، كما الذاكرة جديرة به.. الحياة فيه أيضا سينما ،متوترة حينا وهادئة مثل شريط بالأبيض والأسود أحيانا أخرى.. العالم يتقدم بلا أقنعة، والأشياء تسمى بمسمياتها..
إنه شهادة عن الأشخاص، ولكن أيضا عن العواطف، عن الصداقة وعن التجمهر في المودة بين الوجوه التي تصنع مخيالنا الآن، ومن أجل المستقبل،لغته نافرة، متساوقة مع صاحبها،ولكنها حرة ونظيفة وصادحة.. كما ألفناها من عنده في حالات السهر إلى منتصف الروح.. صادفنا فيه كل الذين رحلوا، نحتاج الحزن لنقرأ صفحتين ثم نحتاج السخرية لكي نقرأ الصفحات التالية.. في كل فاصلة كمين للمفاجأة .