إسحاق هو الذبيح في التراث الإسلامي 2/2
ذكرنا في المقال السابق والذي يحمل نفس العنوان (إسحاق هو الذبيح في التراث الإسلامي) خمسة شهود يشهدون بكتاباتهم و تفسيراتهم بأن الذبیح إسحاق،و هم،عبد ربه الأندلوسي والشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري، والشيخ الأكبر محي الدين إبن عربي، والمفسر المغمور القرطبي زيادة على المفسر الفقيه الإمام عبد الرحمان السهلي،والمؤرخ والإخباري صاحب علىم العمارة ابن خلدون، وها نحن نسترسل بشهود أخرین كذلك هما إبن سلام الجمحي و إبن قتیبة،و المتنذر المعروف “مزيد المديني” و الثعلبي،و أيضاً صاحب “صحيح البخاري” الإمام محمد البخاري،و في الأخير المفسر القرأني الشهير الإمام الطبري.
عاش ابن سلام الجمحي ما بین (150 – 232 ه) و في كتابه “طبقات الشعراء” یذكر شعرا لجریر یهجو فیه سراقة البارقي،و جاء فیه.
و لقد ههمت بأن أدممدم بارقا / فحفظت فیهم عمنا اسحاق
یقول إبن سلام معلقا “یعني إسحاق الذبیح”،و إبن قتیبة (213 – 276 ه) یقول في كتابه “المعارف”،إن الذبیح هو إسحاق،و یستند إبن قتیبة في قوله هذا إلى رأي غالبیة أهل العلم المسلمین و يستند أيضاً للتوراة،ففیها قرأ كما یقول :”أن الذبیح كان إسحاق”،و یعرض إبن قتیبة في كتابه هذا (المعارف) للخلاف الواقع بین المسلمین في هویة الذبیح،و ذلك قبل أن یبدي الرأي المذكور،فیورد ستة سلاسل من أسانید الأحادیث القائلة بالذبيح الإبراهيمي إسحاق،و سلسلتي الأحادیث التي تقول بإسماعیل.
و لنا شهادة أخرى تجمع الطرافة و العفویة إلى عمق الدلالة،إنها لمزید المدیني،و هو من مشهوري أصحاب النوادر و الفكاهة عند العرب،و يقع التحریف في إسمه كثیرا فیقال مزید على ما یذكر عبد السلام هارون،و مزید المدیني هذا معاصر للخلیفة العباسي الثالث المهدي (158 – 169 ه / 775 – 785 م) نشأ في المدینة یثرب و نسب إلیها،و كانت نوادره تدخل بلاط الخلیفة المهدي عن طریق أبي حبیب مضحك الخلیفة،و قد ذكر له الأصفهاني (ت 306 ه) نادرة مع عبد االله بن مصعب الزبیري (111 – 182 ه) و بصبص جاریة المهدي،أما ما یهمنا من نوادر مزید فما یروى عن دیكه الذي صار مضربا للأمثال،فیقال “أغلى من دیك مزید”،و قد نقل لنا أبو حیان التوحیدي (ت 400 ه) هذه الطرفة كما یلي :”أراد مزید أضحیة فلم یجدها،فأخذ دیكا لیضحي به فوجه إلیه جیرانه شاة شاة حتى إجتمع عنده سبع شیاه،فقال دیكي أفضل عند االله من إسحاق لأنه فدى بكبش و دیكي بسبعة”،فهذه الشهادة غنیة بعفویتها و طرافتها عن التعقیب،إذ تبين لنا أن الوجدان الشعبي الإسلامي كان و حتى منتصف القرن الثاني الهجري لا یزال یقر أن الذبیح إسحاق،و أبو حیان ناقل خبر دیك مزید یمكن إدراجه مع سائر الكتاب معاصریه من القرن الرابع الهجري القائلین بأن الذبیح إسحاق، و الجدیر ذكره أيضاً في وقفتنا هاته،أن المراجع الحدیثة التي تروي هذه النادرة تحور عمدا إسم الذبیح فتضع إسماعیل مكان إسحاق،فتقدم لنا مثلاً أخر على ما طرأ على مسألة الذبیح و هویته من تحریف و تحویر بعض القائلین بأن إسماعیل هو الذبیح،كما قال إسماعيل إبن كثير تيمنا بإسمه.
و جاء في قصص الأنبياء المسمى ب”عرائس المجالس” للثعلبي :”قال الشعبي : ألقي إبراهيم في النار و هو إبن ستة عشرة سنة،و ذُبحَ إسحاق و هو إبن سبع سنين،و كان مذبحه على بعد ميلين من بيت المقدس” 1،و ما نذكره أيضاً في هذا الشأن أن إسحاق هو الذبيح و ليس إسماعيل،أن الإمام محمد البخاري (194 – 256 ه / 810 – 870 م) لا يعين في صحيحه هوية الذبيح،و كأنه شاء عمدا عدم الخوض في هذه المسألة،و قال في تاريخه أنه إسحاق و ليس إسماعيل رغم وجود روايات صحيحة على شرطه تقول أنه إسماعيل،و من المستبعد جداً في نظر الباحثيين ذو الرصانة و المعرفة بالتراث الإسلامي و إشكالياته أن يقولوا على أنه لم يرى ذلك،و من أبرز القائلين من القدماء أيضاً أن الذبيح هو إسحاق،الإمام و المؤرخ و المفسر إبن جرير الطبري (224 – 310 ه) الذي أشرنا له في ورقتنا الأولى من هذا البحث،فهو في تاريخه و في تفسيره لا يخفي رأيه في هوية الذبيح و إن كان يذكر الأراء الأخرى المخالفة.
يقول الطبري في تاريخه :”و اختلف السلف من العلماء بأمتنا في الذي أمر إبراهيم بذبحه من إبنيه،فقال بعضهم هو إسحاق إبن إبراهيم،و قال بعضهم إسماعيل بن إبراهيم،و قد روي عن رسول الله (ص) كلا القولين،و لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره،غير أن الدليل من القرأن على صحة الرواية التي رويت عنه أنه قال هو إسحاق أوضح و أبين منه على صحة الأخرى” 2.
و يعود الطبري ليؤكد رأيه في هوية الذبيح،فيقول :”و أما الدلالة من القرأن التي قلنا أنها على أن ذلك إسحاق أصح،في قوله تعالى مُخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه بالشام مع زوجته سارة،فقال “و قال إني ذاهب إلى ربي سيهذيني” (سورة الصافات 99)،”ربي هب لي من الصالحين” (سورة الصافات 99 – 100)،و ذلك قبل أن يعرف هاجر،و قبل أن تصير له أم لإسماعيل،ثم إتبع ذلك الخبر عن إجابته دعاءه و تبشيره إياه بغلام عليم (سورة الصافات 28) “فأقبلت إمرأته في صرة فصكت وجهها و قالت عجوز عقيم” (سورة الذاريات 28 – 29)،ثم كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام،فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة،فالواجب أن يكون ذلك في قوله “فبشرناه بغلام حليم” (سورة الصافات 101) نظير ما جاء في سائر سور القرأن من تبشيره إياه من زوجته سارة،و هنا يتبين لنا أن الطبري يستمد من القرأن نفسه لا من الأحاديث الدليل على أن الذبيح هو إسحاق.
و بعد عرض مُختلف الأحاديث و المرويات في هذه المسألة يؤكد الطبري رأيه فيها :”قال أبو جعفر الطبري،و أولى القولين بالصواب في المفدي من إبني إبراهيم الخليل على ظاهر التنزيل،قول من قال هو إسحاق لأن الله قال “و فذيناه بذبح عظيم” فذكر أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به،و كان الله تبارك إسمه قد بين أن الذي بشر به هو إسحاق،و من وراء إسحاق يعقوب (سورة هود 71)،و كان في كل موضع من القرأن ذكر تبشيره بولد فإما هو معني به إسحاق،كان بينا أن تبشيره إياه بقوله “فبشرناه بغلام حليم” في هذا الموضع نحو سائر أخباره عن غيره من أيات القرأن 3.
المراجع :
1 – “عرائس المجالس” الثعلبي (ص 46)
2 – “قصص الأنبياء من تاريخ الطبري” تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا = دار الفكر / الطبعة الأولى 2002 – بيروث (ص 158)
3 – “جامع البيان عن تأويل القرأن” تحقيق : صدقي العطار = دار الفكر،بيروث / الطبعة الأولى 2005 (المجلد الثالث و العشرون – ص 84)
محمد سعيد: باحث في مقارنة الأديان والعلوم الإنسانية