إسحاق هو الذبيح في التراث الإسلامي
هناك سؤال كان يتبادر إلى ذهني في أواخر تسعينات القرن الماضي كلما حل عيد الأضحى – هل الذبیح الذي ساقه إبراهیم إثر رؤیته حسب القرءان، والذي كان مزمعا على ذبحه حقیقة حسب التوراة (سفر التكوین 22) هو إسحاق أم إسماعیل ؟
لقد كنت أطرح هذا السؤال بعد أن ودت تضاربا في المصادر الإسلامیة و عدم حسمها بأن الذبیح هو “إسماعیل” أو “إسحاق”،إن هذا السؤال غیر المطروح عند غالبیة المسلمین،یطرح إشكالاً عویصا،فقد تكونون من غیر المتساءلین في هذا الأمر، وقد تكونون من غیر المهتمین بشأنكم الدیني إذا كنتم مُسلمون،لكن الأمر عندكم غیر محسوم بأن الذبیح هو إسماعیل كما تضنون، فبالرجوع للمصادر الموثوقة و التفسیرات المعروفة و لا أقول غیر المتداولة،نرى هناك إشكالاً لم یحسم بعد منذ بدایة القرن الثالث الهجري إلى الیوم.
فهذا المقال في الأصل مأخوذ من دراسة تحليلية أنجزناها خلال سنة 2005 و لم يكتب لها النشر نظراً للإيديولوجيا الدينية السائدة و نظرا لتحفظ إحدى دار نشر كبرى مغربية،فهناك مفسرون و إخباریون قدماء و شعراء و أصحاب النوادر یقرون أن الذبیح الإبراهیمي إسحاق و لیس إسماعیل.
و من هؤلاء الكاتب عبد ربه الأندلسي (ت 328 ه)،و هو من القدماء الذین قالوا أن الذبیح هو إسحاق و لیس إسماعیل،فقد ذكر خبرا عن وفاة إبراهیم یؤكد أن الذبیح إسحاق،إذ یقول في “العقد الفرید :”و في بعض الحدیث أن إبراهیم خلیل الرحمان كان من غیر الناس،فلما حضرته الوفاة دخل علیه ملك الموت في صورة رجل أنكره،فقال له “من أدخلك داري ؟”،قال “الذي أسكنك فیها منذ كذا و كذا سنة”،قال “و من أنت ؟،قال “أنا ملك الموت جئت لقبض روحك”،قال “أتاركي أنت حتى أودع إبني اسحاق ؟”،قال “نعم”،فأرسل إلى إسحاق فلما أتاه أخبره فتعلق إسحاق بأبیه إبراهیم و جعل یتقطع علیه بكاء فخرج عنهما ملك الموت،و قال “یا رب ذبیحك إسحاق متعلق بخلیلك”،فقال له الله “قل له أني أمهلتك”،ففعل و انحل إسحاق عن أبیه و دخل إبراهیم بیتا ینام فیه،فقبض ملك الموت روحه و هو نائم 1.
هذا ما ذكره عبد ربه في كتابه “العقد الفريد”،و هناك شخصية ثانية معروفة ذكرت ذلك،و هو الشاعر أبو العلاء المعري (ت 449 ه) إذ قال بالذبيح الإبراهيمي إسحاق أيضاً،فهذا الشاعر الفيلسوف یؤكد في بیت له أن الذبیح كان اسحاق في دیوانه “سقط الزند”
فلو صح التناسخ كنت عیسى
و كان أبوك إسحاق الذبیحا
و يؤكد الشیخ الأكبر محي الدین ابن عربي (ت 638 هجریة) نفس الأمر،أن الذبیح هو إسحاق في “فصوص الحكم” – باب “قص حكمة حقیة في كلمة اسحاقیة.
فداء نبي ذبح ذبح لقربان
و أین نواج الكبش من نوس إنسان
و لا شك أن البدن أعظم قیمة
و قد نزلت عن ذبح كبش لقربان 2.
و قد أجمع القرطبي و الطبري على أن الذبیح هو إسحاق،يقول القرطبي المفسر (ت 671 ه)،أن الذبیح إسحاق،إذ جاء في تفسیره “و اختلف العلماء في المأمور ذبحه فقال أكثرهم الذبیح إسحاق”،و من قال بذلك العباس بن عبد المطلب و ابنه عبد الله،و هو الصحیح عنه،فالثوري و إبن جریج یرفعانه إلى إبن عباس،قال،الذبیح إسحاق و هو الصحیح عن عبد الله بن مسعود أن رجلا قال له “یا إبن الأشیاخ الكرام،فقال عبد االله ذلك یوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبیح الله بن إبراهیم خلیل الله” و یمضي القرطبي في تعداد الصحابة الذین قالوا أن الذبیح إسحاق،و روى أبو الزبیر عن علي بن أبي طالب،و عن عبد الله بن عمر أن الذبیح إسحاق،و هو قول عمر،فهؤلاء سبعة،جابر قال،الذبیح إسحاق،و ذلك مروي أیضاً من الصحابة،و یعدد القرطبي أسماء التابعین الذین قالوا أن الذبیح هو إسحاق،و قال به التابعین و غیرهم علقمة و الشعبي و مجاهد و سعید بن جبیر و كعب الأحبار و قتادة و مسروق و عكرمة و القاسم بن أبي برة و عطاء و مقاتل و عبد الرحمان بن سابط و الزهري و السدي و عبد االله بن أبي هدیل و مالك بن أنس كلهم قالوا الذبیح اسحاق،و یأخذ القرطبي من قول الیهود و المسیحیین،و الطبري يقول أن الذبیح هو إسحاق و هو حجة في ذلك،و علیه أهل الكتابین الیهود و النصارى و إختاره غیر واحد منهم،و یقول القرطبي عن بعض أدلة من قال أن الذبیح إسماعیل “و هذا الإستدلال كله لیس بقاطع”،و هكذا نجد القرطبي یحتج بقول سبعة من كبار الصحابة،العباس و إبنه عبد الله و عبد الله بن مسعود و جابر و علي بن أبي طالب و عمر و ابنه عبد الله 3.
و من أبرز القدماء كذلك،القائلین بأن الذبیح هو إسحاق،الحافظ الفقیه و المفسر الإمام عبد الرحمان السهلي (508 – 581 ه) و قد اشتهر بتفسیره للسیرة في كتابه “الروض الأنف في شرح السیرة النبویة لإبن هشام”،يقول السهلي في كتابه “التعریف و الأعلام في ما أبهم في القرءان من الأسماء و الأعلام” متبعا خطى الطبري،و قوله “فبشرناه بغلام حلیم” (الصافات 101) یعني إسحاق،ألا تراه یقول في أیة أخرى “فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق یعقوب” (هود 70)،و قال في أخرى “فأقبلت إمرأته في صرة فصكت وجهها و قالت عجوز عقیم” (الذاریات 29)،و إمرأته هي سارة،فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا فالذبیح لا شك هو إسحاق،لقوله ههنا “فلما بلغ معه السعي” (الصافات 102)،و لم یكن معه بالشام إلا إسحاق،و أما إسماعیل فكان قد إستودعه مع أمه،و هذا عن إبن عباس مرفوعا إلى نبي الإسلام في بطن مكة،و بهذا القول قال إبن مسعود،و رواه إبن جریر عن إبن عباس 4.
و يبحث العلامة المدقق ابن خلدون (ت 880 ه) في تاریخه عن من یكون الذبیح و یخرج بنتیجة تؤكد قول عمر و علي و ابن مسعود وكعب الأحبار و الطبري و غیرهم،یقول إبن خلدون : “واختلف في ذلك الذبیح من ولدیه،فقیل إسماعیل و قیل إسحاق،و ذهب إلى كلا
القولین جماعة من الصحابة و التابعین”،و یعدد إبن خلدون أشهر القائلین قوله :”و القول باسحاق للعباس و عمر و علي و ابن مسعود و كعب الأحبار و زید ابن أسلم و مسروق و عكرمة و سعید بن جبیر و عطا و الزهري و مكحول و السدي و قتادة”،و یختم إبن خلدون موافقا قول الطبري في أن الذبیح هو إسحاق المبشر به قبل ذلك كله،إنما هو إبن سارة فهو الذبیح،بهذه الدلالة القاطعة و بشارة الملائكة لسارة بعد ذلك حین كانوا ضیوفا عند إبراهیم،إنما كان تجدیدا للبشارة المتقدمة” 5.
المراجع :
1 – أنظر كتاب العقد الفريد” لإبن عبد ربه الأندلسي أبو عمر بن محمد = تحقيق : أحمد أمين = دار الكتاب العربي – بيروث 1983 (المجلد الثاني – ص 440).
2 – “فصوص الحكم” لإبن عربي (المجلد الأول – ص 84).
3 – “الجامع لأحكام القرأن” للقرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد = دار إبن حزم / الطبعة الرابعة 2004 (المجلد الثاني – ص 2604 – 2605).
4 – “التعريف و الأعلام فيما أبهم في القرأن من أسماء و الأعلام” السهيلي بن عبد الرحمان = تحقيق : عبد الله النقراط / منشورات كلية الدعوة الإسلامية – طرابلس الغرب 1992 (الطبعة الأولى – ص 272)
5 – “تاريخ إبن خلدون : كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر” دار الكتاب اللبناني 1956 / الطبعة الأولى (المجلد الثاني – ص68 – 69).
محمد سعيد : باحث في مقارنة الأديان والعلوم الإنسانية