“أوتيستو”.. لبنى أبيضار تعود إلى الشاشة بلغة الصمت وصدق الأداء

“أوتيستو”.. لبنى أبيضار تعود إلى الشاشة بلغة الصمت وصدق الأداء

 

في الدورة الجديدة من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، عادت الممثلة المغربية لبنى أبيضار إلى الساحة السينمائية بفيلمٍ جديد يحمل بصمة فنية وإنسانية مختلفة، بعنوان “أوتيستو”، من إخراج الفرنسي جيروم أوليفر كوهين. الفيلم عُرض يوم 20 أكتوبر 2025، واستطاع أن يثير اهتمام النقاد والجمهور على حد سواء، بفضل طرحه الإنساني العميق وابتعاده عن القوالب الجاهزة في تناول موضوع الأمومة والتوحّد.
يروي “أوتيستو” حكاية أمٍّ عازبة تكافح في صمت من أجل تربية طفلها المصاب بالتوحّد، في مجتمعٍ يرفض الاختلاف ويخاف من المغاير. هذه القصة البسيطة في شكلها، تحمل في جوهرها أسئلة إنسانية كبيرة حول القبول، الرحمة، والصراع من أجل الحب والكرامة. الفيلم لا يقدم التوحّد كإعاقة، بل كنافذة جديدة لرؤية العالم من زاوية مختلفة، حيث يصبح الاختلاف مساحةً للتأمل في معنى الإنسانية. أداء لبنى أبيضار في هذا العمل شكّل نقطة تحوّل في مسارها الفني. فقد قدّمت شخصية الأم بصدقٍ داخلي نادر، بعيداً عن المبالغة والانفعال. اعتمدت على لغة الجسد وتعبيرات الوجه أكثر من الحوار، ما جعل حضورها طاغياً رغم بساطة المشاهد. ظهرت أبيضار في “أوتيستو” وكأنها تولد من جديد، بعد مسارٍ فني حافل بالتجارب المثيرة للجدل، لتؤكد هذه المرة أن النضج الفني هو أرقى أشكال الجرأة. من جانبه، اعتمد المخرج جيروم كوهين على أسلوب بصري متقشّف، يركّز على الإضاءة الرمادية والزمن البطيء، مما منح العمل بعداً تأملياً وسمح للمشاهد بالانغماس في عالم الأم والطفل. اختياره للسكون كوسيلة للتعبير جعل الفيلم مساحةً للتفكير لا للبكاء، وللتفاعل العقلي والعاطفي في آنٍ واحد. الفيلم لا يقدّم خطاباً مباشراً أو دعائياً، بل يترك للمُشاهد حرية التأويل، حيث تتحول الأمومة إلى رمزٍ للصبر والمقاومة، ويتحوّل التوحّد إلى لغةٍ خاصة من الحب والوجود. هنا، تنجح السينما في أداء وظيفتها الأسمى: جعل الإنسان يرى نفسه في الآخر. بأدائها الهادئ والعميق، تؤكد لبنى أبيضار أن السينما ليست دائماً ضوءاً صارخاً وعدساتٍ تلاحق الشهرة، بل يمكن أن تكون لحظة صدقٍ فني وإنساني تُعيد للفن معناه الحقيقي. فـ“أوتيستو” عمل يذكّر بأن الصورة قادرة على احتضان الألم والجمال معاً، وأن الصمت أحياناً أبلغ من الكلام. بهذا الفيلم، تفتح أبيضار صفحة جديدة في مسيرتها، عنوانها التحوّل والنضج، وتثبت أن الفنان الحقيقي لا يُقاس بما يثيره من جدل، بل بما يتركه من أثرٍ في وجدان الجمهور. “أوتيستو” ليس مجرد فيلم عن الأمومة أو التوحّد، بل هو تجربة إنسانية مكتملة تُعيد الاعتبار لقيمة الفن كمرآة للواقع ووسيلة للشفاء الداخلي. وفي حضوره بمهرجان طنجة، أعاد التذكير بأن السينما المغربية قادرة على إنتاج أعمالٍ تحمل البعد الإنساني بعمقٍ فني راقٍ، بعيداً عن الاستعراض والمجانية. في النهاية، يغادر المتفرج القاعة متأملاً أكثر مما يتحدث، شاعراً بأن الأمومة ليست فقط غريزة، بل رسالة وجودٍ في عالمٍ يفتقد الفهم والرحمة، وأن الاختلاف، كما يقدمه الفيلم، ليس نقصاً بل وجهٌ آخر للجمال الإنساني.