3 نونبر 2024

على هامش اعتقال بوعشرين

على هامش اعتقال بوعشرين

محمد إنفي

ما دفعني إلى طرح هذا السؤال، هو ما يعتمل اليوم، في وسط الرأي العام الوطني بمختلف مكوناته، من شكوك و ما يوضع من فرضيات ويطلق من تكهنات وما يصدر من أحكام مسبقة (قبل أن ينتهي التحقيق) حول قضية اعتقال مدير نشر يومية “أخبار اليوم”، توفيق بوعشرين. ولو لم يكن معتقلا، فيحسبه البعض تشفيا وشماتة مني، لاستعملت، بدون تردد، اسم “تلفيق” بدل “توفيق”؛ وقد استحقه عن جدارة، خلال مساره الصحافي؛ وأنا مدين به لمن ابتدعه.

إن ما تعرفه القضية من تطورات وتداعيات وما يصاحبها من تفاعلات، سواء في وسائل الإعلام أو في شبكات التواصل الاجتماعي، وبالأخص الفايسبوك، أو من خلال ما يدور من أحاديث في المقاهي والمجالس الخاصة أو ما يمكن أن يباغتك به أحد معارفك من رأي شخصي (إما متشككا أو مستحسنا أو متشفيا) حول الموضوع؛ إن كل هذا  يجعل من الصمت والحياد نوعا من التهرب من المسؤولية؛ إن لم أقل نوعا  من التواطؤ مع كل المواقف والطروحات.

لقد تحاشيت حتى اليوم التفاعل والتعامل مع ما يقال أو يكتب وينشر حول خبايا وخفايا قضية اعتقال بوعشرين؛ وذلك، احتراما لنفسي، أولا، لكوني لا أملك (والأصح لم أكن أملك) من المعطيات ما يكفي لتكوين رأي قريب من الصواب؛ واحتراما للمؤسسة الدستورية المعنية، ثانيا، لكون التحقيق القضائي لم ينته بعد.

وبما أن بعض هذه التفاعلات والمواقف والآراء تزرع اليأس والإحباط أكثر مما تنير الرأي العام الوطني حول القضية – ذلك أنها تسير في اتجاه إنكار، أو على الأقل، تبخيس كل ما تحقق في بلادنا (بفضل التضحيات الجسام للشعب المغربي ونخبه السياسية والثقافية والفكرية) من مكتسبات في المجال الحقوقي والمؤسساتي، وما حصل من تطور، رغم كل النقائص، في دواليب الدولة ومؤسساتها الدستورية والحكماتية – فقد قررت، بدوري، كمواطن ومتتبع، قدر المستطاع،  للحياة العامة، السياسية والمؤسساتية، أن أدلي بدلوي في هذا الموضع.

شخصيا، أرى أن كل ما يحدث من تفاعلات وردود أفعال حول هذا الملف، بغض النظر عن طبيعتها ومحتواها، هو أمر عادي وطبيعي. لنأخذ، مثلا،الشكوك المعبر عنها بهذا القدر أو ذاك، من هذه الجهة أو تلك، حول الأسباب الحقيقية (والخفية) وراء الاعتقال.أعتقد أنه  يمكن فهمها وتفهمها، إذا ما استحضرنا ما حصل في بلادنا من تشويه للعمل المؤسساتي، خاصة خلال ما سمي بسنوات الجمر والرصاص؛ حيث كاد دور بعض الأجهزة في الشرطة وفي السلطة، أن ينحصر في رصد وتتبع المخالفين وتلفيق التهم لمن يراد التخلص منهم أو معاقبتهم أو الاقتصاص منهم. وكان ذلك يتم باسم القانون، طبعا، لكن في غياب أدنى شروط المحاكمة العادلة. فالجهاز القضائي كان يخضع للتعليمات (إلا من رحم ربك) ويُستعمل في تصفية الحسابات والانتقام من المعارضين. أما فيما يخص المؤسسات التمثيلية، فحدث ولا حرج. فقد كانت تصنع صنعا لتبقى مجرد هياكل صورية، طيعة في يد السلطة وفي خدمة أهدافها أكثر مما هي في خدمة المواطن.

فلا غرابة، إذن، في أن يفقد المواطنون الثقة في مؤسسات بلادهم. واستعادة الثقة، إذا فُقدت، سواء في الأشخاص أو في المؤسسات، ليس بالأمر السهل؛ بل، في بعض الأحيان والأحوال، يصبح الأمر مستحيلا، أو على الأقل، يحتاج إلى وقت طويل.

فمن فرط ما عاشته مؤسساتنا الدستورية، التمثيلية منها والقضائية، التشريعية منها والتنفيذية، من تدخلات السلطة وأصحاب النفوذ والقرار(ولنقل: “المخزن”، سواء منه العتيق أو الجديد)- منذ الاستقلال وإلى ما شاء الله، وإن باختلاف الجرعات حسب السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية…- من فرط ذلك، فقد المواطن الثقة في المؤسسات التنفيذية والمؤسسات التمثيلية، وفي منظومة العدالة بكل مكوناتها، وبالأخص القضاء الذي وصف، في السابق، بقضاء التعليمات.

لذلك، فلا نستغرب، اليوم، أن نجد، في بعض التدوينات أو التصريحات أو المقالات، ما يفيد بأن ما حدث  لبوعشرين لا يختلف كثيرا عما كان يحدث في السابق (أحد محامييه استعمل عبارة “ما كان يحدث بالأمس”)، من حيث طبخ الملفات ووضع المصايد في طريق المزعجين بمواقفهم أو كتاباتهم أو تصريحاتهم، الخ.

وفي اعتقادي المتواضع، فإن مثل هذا الحكم يلغي من حسابه كل ما حصل من تطور فيما يخص الضمانات القانونية المكفولة للمعتقل على ذمة التحقيق، وكذا فيما يخص شروط المحاكمة العادلة. فمن الحيف في حق النيابة العامة، ومن التهور في المواقف أن ننساق مع فرضية تصفية الحسابات “السياسية” مع بوعشرين، والتحقيق لا يزال جاريا.

كما أنه من التضليل للرأي العام محاولة إقحام الجسم الصحافي في هذه النازلة. فقد ذهب أستاذ القانون، الدكتور عمر احرشان، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، في تدوينة له (نقل موقع الجماعة أهم فقراتها؛ وقبله أعلن زميله في الأمانة العامة، الأستاذ حسن بناجح، في تدوينة له أيضا، تضامنه مع بوعشرين)، إلى القول: “يذكرني ما يحدث لأخبار اليوم بما حدث سابقا لـ”الصحيفة” و “le journal” و”demain” و”المساء” و”أخبار اليوم” في تسميتها القديمة، و”رسالة الفتوة” و”العدل والإحسان” وغيرها من الصحف والصحافيين”؛ مشددا على أن“الكرة، مرة أخرى، في مرمى الجسم الصحفي والحقوقي والوطني لتوسيع جبهة التضامن والنضال ضد القوى التي لا هم لها إلا الإجهاز على ما تبقى من مكتسبات.

وأود، هنا، أن أنوه بموقف النقابة الوطنية للصحافة المغربية التي اختارت التريث واحترام المسطرة القضائية، حرصا على عدم التأثير على الهيئة القضائية، ودعت “إلى الابتعاد عن كل ما يمس بحقوق أطراف القضية”. كما أنوه بموقف فدرالية الناشرين المغاربة، التي قررت، بدورها، انتظار “عرض الوقائع أمام المحكمة للتمييز بين الضحية والجاني”. وقد اعتبر رئيسها(نور الدين مفتاح) “كل اندفاع في هذا الاتجاه أو ذاك هو وضع للعربة أمام الحصان”. ومن نفس المنطلق، أثمن موقف المنظمة الاشتراكية للنساء الاتحاديات، التي شددت على ضرورة “حماية حقوق الضحايا ورفض كل أشكال التشهير والمتاجرة”.

وبالنظر إلى التفاعلات المرصودة، يمكن تصنيف المواقف إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى، هي الواردة في الفقرة أعلاه (نقابة الصحافة وفدرالية الناشرين ومنظمة النساء الاتحاديات). ولا أزعم أنني اطلعت على كافة المواقف والآراء التي تسير في نفس الاتجاه. أما الفئة الثانية، فهي تدين المتهم، ضدا على قرينة البراءة التي هي الأصل؛ وبالتالي، فهي تصدر حكمها قبل القضاء. ولا يهمها، بعد ذلك، ما ستقوله المحكمة.

وهناك فئة ثالثة تحتمي بنظرية المؤامرة، فتجعل الأمر كله مفبرك ومخدوم بهدف الانتقام من المعني بالأمر. وخطورة هذا الصنف من المواقف تكمن في كونها تستهدف، في العمق، استقلالية المؤسسات ومصداقيتها؛ بحيث تعتبرها مجرد أدوات لتصفية الحسابات وتطويع وتركيع المخالفين. وهو ما يعني، في نهاية التحليل، أنها تبرئ المتهم وتجعل منه ضحية. وتزداد خطورة هذا التوجه حين نلمس أنه يكاد يكون هو السائد بين أتباع ومسؤولي الحزب الذي يقود الحكومة. والأمر مفهوم، بطبيعة الحال، فيما يخص خلفياته؛ كما هو مفهوم، بالنسبة لموقف جماعة العدل والإحسان.

لست رجل قانون لأخوض في المساطر وفي ما يسمح به القانون أو لا يسمح، من حيث أسباب الاعتقال ومكانه وطريقة تنفيذه. وأحيل، في هذا الباب، على ما قاله الأستاذ محمد الخليفة من كون “المسطرة الجنائية لا تسمح بهذا الاعتقال، خاصة بالطريقة التي تم بها”، وأنه “من غير المقبول أن يتم اعتقال بوعشرين أو أي مواطن بناء على شكايات”.

لكن هذا لا يمنعني من أن أرى في طريقة ومكان الاعتقال ما يفيد، حسب رأيي المتواضع،  أن الجهة التي اعتقلت بوعشرين بناء على شكايات، قد توفرت لديها معطيات ومعلومات دقيقة – أو على  الأقل، كان لها شكوك قوية في شأنها- حول أهمية ما يوجد بمكان الحجز من أشياء مفيدة للتحقيق، حتى لا أقول من حجج وأدلة ضد المتهم؛ ولذلك، تم الحرص على عدم ترك الفرصة لإعدام أي دليل مادي، قد تكون اعتمدت عليه الضحايا في شكاياتهن؛ وذلك، حفاظا على مصلحة هؤلاء الضحايا وحماية لهن من تبعات الشكاية الكيدية.

وأعتقد أن العثور على خمسين(50) شريطا جنسيا بمكتب بوعشرين يزكي هذه الفرضية؛ خاصة وأن جل الضحايا صحافيات ومستخدمات بمؤسسته، حسب ما أوردته بعض الصحف. فما قول أستاذ القانون، الدكتور عمر احرشان، في هذا الأمر؟

وإذا كان مفهوما أن يكثر القيل والقال في هذا الموضوع، وأن يخوض فيه المهتم والفضولي، الحقوقي والقانوني، الإعلامي والمثقف…، فإنه من الصعب فهم وتفهم بعض”التحاليل” الفايسبوكية لبعض رجال القانون (وأنا، هنا، لا أعني دفاع المتهم) الذين يريدون تحوير القضية وتحويلها إلى مسألة رأي، حتى يصبح لتهمة “الاعتداءات الجنسية”  أبعاد سياسية وثقافية وإعلامية وإيديولوجية…

وحتى يكون لهذه الأبعاد مفعولها المتوخى، اجتهد أصحاب هذا الرأي في إعطائها طابعا خاصا، يجعل من الرغبة في الانتقام ومن روح التآمر المحرك الأساسي لكل القرارات  والإجراءات التي اتخذتها النيابة العامة. وهو ما يجعل من بوعشرين بطلا (“صحفي مزعج”، يقول احرشان) وضحية (تصفية الحسابات مع هذا الصحفي المزعج، حسب احرشان نفسه)، في نفس الآن.

وسوف أضيف إلى الدكتور احرشان، نموذجا آخر، احتفى به موقع “اليوم 24” لصاحبه بوعشرين، الذي وضع العنوان التالي لمقاله الرئيسي ليوم 26 فبراير 2018: “المحامي [فلان]: كتيبة لاعتقال بوعشرين.. يراد منها الإعدام رمزيا وتوجيه رسائل التطويع”. وبعد ذلك، أخذ الموقع من تدوينة المحامي كل ما يخدم قضيته. فعلى سبيل المثال، يتحدث المحامي عن ” منطق الخصوصية المغربية في التعاطي مع بعض المشتبه فيهم حين تختلط فيهم صفات السياسة و الثقافة و السلطة و الاعلام و يكون لسانهم متجاوز لحدود ‘الاحترام’ و ملامس لمنطق الدسارة و الزياغة كما يفهمها و يتعاطى معها المخزن حيث يراد من لحظة اعتقال مثل هؤلاء إعدامهم رمزيا و وتوجيه رسائل التطويع و التنبيه لأمثالهم او من تسول له نفسه ان يحاول الاحتذاء بهم يوما …!”

وفي تدوينة أخرى، وضع لها كعنوان “العبث !!!!”، كتب نفس المحامي قائلا: “منتهى العبث ان يجازف صحفي مقتدر ينتمي لجيل إعلامي بمواصفات و اختيارات ثقافية [كذا] بدأت في التشكل منذ نهاية تسعينات القرن الماضي و في التأسيس لبلورة قطيعة ‘ابستملوجية ‘ تاريخية [كذا] مع تقاليد صحفية ظل الامتزاج و الارتباط فيها قائما بين القلم و بطاقة الانخراط الحزبي….قلت ان يجازف بالسقوط و بتوجيه ضربا قاضية لمصيره ووجوده …. الشخصي و الرمزي ضربات ينتشي بالسماح بتصويرها دون خوف او وجس …..او ذرة اعتبار..”(لا دخل لي في الأخطاء الموجودة بالنص).

وبنفس المنطق، يمكن قلب المعادلة والقول: منتهى العبث أن يجازف جهاز ينتمي إلى السلطة القضائية بتوريط هذه الأخيرة في ملف يسيء لصورتها ولوضعها الدستوري.  فالمشهد، إذن، كما قال أحد المعلقين على تدوينة “العبث”، “كله يوحي بل يؤكد أن أحد الأطراف بليد بشكل فظيع في كلتا الحالتين…”.  والتاريخ (وقبل ذلك التحقيق) كفيل بكشف الطرف الغبي في هذه النازلة. ولن أجازف باستباق هذا الكشف حتى لا أتهم بالتحامل.

لن أضع نقطة النهاية لهذا المقال، قبل الحديث عن دفاع المتهم، خاصة وأن من بين أعضائه الحاضرين إعلاميا، محاميان، مشكوك في صدقيتهما ومصداقيتهما. وقد زاد هذا الشك بعد توضيح إدارة السجون حول “مزاعم الدفاع” بشأن إقامة بوعشرين بالسجن المحلي عين برجة بالدار البيضاء. وهذا التوضيح، هو بمثابة بيان تكذيبي للتصريحات الإعلامية للأستاذين محمد زيان وعبد الصمد الإدريسي.

وبهذا التوضيح (أو التكذيب)، فقد أصبحنا أمام نازلة تتطلب البحث والتحقيق للوصول إلى الحقيقية، صيانة للقانون وحماية للحق العام والخاص وإنصافا لأحد مكونات منظومة العدالة، المفترى عليه في هذه النازلة؛ ذلك أن أحد الطرفين يكذب على الرأي العام الوطني بمختلف مكوناته (الإعلامي والحقوقي والمدني…). فإما أن بوعشرين قد “تم تمكينه من جميع الحقوق التي يخولها له القانون”؛ وبالتالي، فإن دفاعه متهم بترويج “المغالطات” والادعاءات الكاذبة” لتضليل الرأي العام الوطني؛ وإما أن دفاعه بنى اتهامه على معطيات صحيحة، وإدارة السجون تحاول، ببيانها التكذيبي، أن تبعد عن إدارة السجن المحلي عين برجة تهمة حرمان المعتقل من حقوقه القانونية. وفي هذا تضليل للرأي العام الوطني، أيضا.

وبما أن هذه النازلة تضع مكونين من مكونات منظومة العدالة، وجها لوجه، فعلى أي أساس سيحسم المواطن أمره في هذا الأمر؟ أي فيمن سيثق؟ أفي المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج أم في زيان والإدريسي كمحاميين؟ ولهذا أصبح من الضروري أن تتدخل الجهة المخولة وتكشف الحقيقية حتى يطمئن الرأي العام الوطني ويقتنع المواطن، المهتم والعادي، بأن مؤسسات بلاده قد تغيرت أو في طور التغيير، وعلى السكة الصحيحة.

خلاصة القول، إن بلادنا في حاجة إلى مؤسسات تكرس مبدأ الشفافية والمصداقية من أجل تجويد وتطوير ما تحقق من مكتسبات وما أنجز من إصلاحات، حتى يتواصل بناء دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون على أسس صلبة، كفيلة بأن تعيد للمواطن الثقة في مؤسسات بلاده. ومن أجل الحفاظ على هذه الثقة، يتعين الحرص من كل الأطراف على صيانة المؤسسات الدستورية من عوامل التعرية الداخلية منها والخارجية، حتى تبقى هذه المؤسسات قوية وذات مصداقية. وأهم عامل، في هذا الباب، هو التطبيق الفعلي والأمثل للمبدأ الدستوري “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، المعبر عنه، في ثقافتنا الشعبية، بمقولة “لي فرط يكرط”.

وللقارئ واسع النظر !!!

مكناس في 8 مارس 2018

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *