“المحاماة في ضوء مشروع 66.23: من شريك في العدالة الى خاضع للرقابة”
ذ/ أحمد حموش محام بهيئة الدار البيضاء
نادرا ما تكون القوانين مجرد نصوص تقنية بريئة، فهي منذ ولادتها تحمل أكثر مما تعلن، وتخبئ في بنيتها الصامتة تصور كامل عن السلطة، وعن علاقتها بالحرية، وعن الحدود التي ترغب في رسمها بين الذات القانونية والمجال العمومي. وحين يتعلق الأمر بمهنة المحاماة، فإن التشريع لا ينظم المهنة فحسب، بل يعيد ترتيب مشهد العدالة بأكمله، ويحدد من يحق له الكلام، ومن يطالب بالصمت. وهنا تكمن أهمية قراءة النصوص قراءة نقدية، تبحث عن ما وراء الكلمات، وما تحمله من رسائل ضمنية عن السلطة، والحرية المهنية.
وفي هذا السياق، يظهر مشروع القانون رقم 66.23 المنظم لمهنة المحاماة، محملا بخطاب ظاهر عن “التحديث” وإعادة الهيكلة”. غير أن التأمل المتأني يكشف عن مسعى أعمق: إعادة تعريف العلاقة بين السلطة، ومهنة الدفاع، وفق منطق الضبط والتحكم، لا وفق منطق الشراكة والاستقلال. فالتشريع، حين يتناول مهنة حرة ذات وظيفة دستورية، يتحول من أداة تنظيم الى مرآة تعكس طبيعة النظام القانوني، ومكانة الحرية المهنية ضمن هندسة السلطة. وبذلك يصبح النص أكثر من تنظيم مهني: إنه انعكاس لطبيعة السلطة، وفلسفتها في إدارة المهنة.
وللتدقيق في معنى هذا التحول، تشير الأدبيات الكلاسيكية لنظرية المهن الحرة الى أن المحاماة تقوم على ثلاث ركائز متكاملة: الاستقلال، والتنظيم الذاتي، والوظيفة الاجتماعية. فالاستقلال ليس امتياز شخصي للمحامي، بل شرط موضوعي لممارسة الدفاع بلا خوف أو حساب، والتنظيم الذاتي ليس ترف مؤسساتي، بل ضمانة لالتزام المهنة بقيمها الداخلية، أما الوظيفة الاجتماعية فهي التي تجعل المحامي فاعلا عموميا، حاضرا في حماية الحقوق والحريات، وفي مساءلة السلطة. وبهذا يظهر بوضوح أن هذه الركائز ستخضع لاختبار صعب أمام التعديلات المقترحة.
غير أن مشروع القانون لا يكتفي بتغيير هامش هذه الركائز، بل يتجاوز ذلك الى تفكيكها بهدوء منهجي. فالتنظيم الذاتي، الذي يشكل قلب الاستقلال المهني، يفرغ من مضمونه حين تنقل مراكز اتخاذ القرار من داخل الجسم المهني الى دوائر السلطة التنفيذية. فلا يقتصر الأمر على تعديل إجرائي محدود، بل يشمل إعادة رسم الخريطة المؤسسية للمهنة بشكل كامل، بحيث تصبح السلطة حاضرة في كل مرحلة من مراحل مسار المحامي: من الولوج الى المهنة، مروراً بالتكوين، وصولا الى مراقبة الجداول والمسارات التأديبية. وبالتالي فإن التنظيم المهني يتحول من فضاء ذي استقلال نسبي الى جهاز مراقب، مما يفقد قدرته على تقرير مصيره، ويصبح خاضعا أكثر لآليات التنفيذ والسيطرة.
وفيما يخص الاستقلال، يعاد تعريفه داخل المشروع، تعريفا وظيفيا ضيقا، يربطه بحسن السلوك كما تقدره السلطة، لا بوصفه حقا مؤسسا لا يمس. فتكثيف آليات الرقابة، وتوسيع نطاق التدخل التأديبي، يجعل الاستقلال قيمة معلنة في النصوص، لكنها منكمشة في الواقع. وبذلك يتحول المحامي من شريك مستقل الى مراقب دائم، مطالب بإدارة حذره قبل إدارة دفاعه.
أما الوظيفة الاجتماعية للمحاماة، فهي الأكثر ارتباطا بالمجال العمومي، وتشمل مهاما تتجاوز حدود الدفاع الفردي لتصل الى حماية الحقوق والحريات العامة، والمساهمة في مساءلة السلطة، وضمان أن تبقى العدالة فضاء للنقاش العمومي. ويقوم المحامي من خلال ممارسته بوساطة قانونية واجتماعية، والمرافعة أمام القضاء، وإيباء الرأي القانوني، بإسهام فعال في إنتاج المعنى القانوني وتطوير فهم المجتمع للقانون، مما يجعل دوره محوريا في صيانة القيم الدستورية والعدالة التداولية.
غير أن المشروع يقلص هذه الوظيفة الى دور تقني محايد، ويحول المحامي من فاعل نشيط ووسيط مجتمعي، الى منفذ لإجراءات محددة سلفا، مما يحول المحاماة الى فضاء صامت محدود التأثير، عاجزة عن أداء دورها في النقاش العام ومساءلة السلطة.
ومن منظور الحقول المهنية لدى بيير بورديو، يمكن قراءة المشروع على أنه محاولة لإعادة إدماج “حقل المحاماة” داخل “حقل السلطة”. فالمهنة التي راكمت عبر التاريخ رأسمالا رمزيا، وقواعد مستقلة نسبيا، تسحب تدريجيا من مجالها، ليعاد ضبطها وفق منطق إداري، وأمني، ومالي غريب عنها. وبذلك تتآكل استقلاليتها الرمزية، ويتحول الصراع داخلها من نقاش مهني حول القيم والمعايير، الى تمرين يومي على الامتثال.
أما على مستوى العدالة التداولية، فإن المشروع يقف في مواجهة هذا المبدأ الأساسي. فحسب يورغن هابرماس، لا تستمد القواعد مشروعيتها من صدورها عن جهة مختصة فقط، بل من كونها ثمرة نقاش عمومي عقلاني تشاركي. غير أن مسار إعداد مشروع 66.23 يكشف غيابا شبه تام لهذا البعد، إذ لم يبن على حوار مهني موسع، ولا على نقاش عمومي شفاف، بل قدم في صيغة شبه منجزة، تفرغ المشاركة من معناها، وتحول الاستشارة الى إجراء شكلي بلا أثر. وهنا يتجلى تمركز القرار داخل السلطة، على حساب الحوار المهني والمشاركة المجتمعية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن المشروع يعمق اختلالات قائمة داخل الجسم المهني، عبر إعادة إنتاج التراتبية التقليدية، وتهميش فئات واسعة، خصوصا المحامين الشباب، سواء من حيث التمثيلية، أو الولوج الى مواقع القرار. وهو توجه يتقاطع مع منطق الحفاظ على النخب المهنية القائمة، وتحويل التنظيم المهني الى فضاء مغلق، محدود التداول، ضعيف التجدد.
وفي النهاية، فإن هذه الاختلالات تزداد وضوحا حين ننتقل الى البعد الاقتصادي للمشروع، الذي يستبطن تصورا سوقيا للمحاماة. من جهة، يقيد مجالات تدخلها التقليدية، ومن جهة أخرى، يفتح الباب أمام المكاتب الأجنبية، والممارسات العابرة للحدود، دون ضمانات كافية لحماية الممارسة الوطنية. وهو ما يجعل المحامي الممارس في وطنه في موقع هش داخل منظومة مصالح أكبر منه، وهكذا تتحول المهنة الى نشاط اقتصادي فاقد لوظيفتها السيادية، ويضعف صوتها العمومي.
إن القراءة المفاهيمية المتقاطعة تؤكد، أننا أمام نص يعيد تعريف المحاماة باعتبارها مجالا يجب ضبطه، وتطويقه بما ينسجم مع منطق السلطة، لا مع متطلبات الحق في الدفاع. وهو ما يجعل المشروع في جوهره، متعارضا مع روح الدستور، والمبادئ الكونية للمهن الحرة، وأبسط شروط العدالة التداولية. وبالتالي، فإن تأثيره يمتد الى كل المواطنين الباحثين عن عدالة حقيقية.
وختاما يبقى مشروع القانون رقم 66.23 نصاً يعكس ميل السلطة إلى ضبط المحاماة وتقليص استقلالها، مما يثير مخاوف جدية حول قدرة المهنة على أداء دورها الدستوري والحقوقي. فالنقاش لا يتعلق بمهنة تبحث عن امتيازات، بل بمجتمع يختبر حدود عدالته؛ فحين تحاصر المحاماة، لا يقيد المحامون وحدهم، بل يقيد القانون نفسه ويخفت الصوت الذي يمنح العدالة بعدها الإنساني. ومع ذلك، يبقى الأمل قائما في إمكانية الحفاظ على محاماة حرة، لا بوصفها ترفا ديموقراطيا أو حقوقيا، بل كأحد أهم أدوات الدفاع عن الحقوق والحريات، وصياغة عدالة أكثر إنسانية وشفافية. فالحق المستقل والفضاء المهني الحر يظلان أداتين فاعلتين لحماية العدالة، وضمان حضور صوت المواطن، وجعل القيم الحقوقية نبراساً للمستقبل.
الدارالبيضاء في 25/12/2025



