افتتاح الملتقى العالمي الإفتراضي للتصوف في سياق وطني وعالمي خاص
تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، وباسم مؤسسة الملتقى ونيابة عن شيخ الطريقة القادرية البودشيشية الدكتور مولاي جمال الدين القادري بودشيش، ومشيختها، أعطى الدكتور منير القادري بودشيش، الخميس 29 اكتوبرالجاري، انطلاقة فعاليات الدورة الخامسة عشر للملتقى العالمي للتصوف حول موضوع: “التصوف وتدبير الأزمات: دور البعد الروحي والأخلاقي في الحكامة الناجعة”، الذي ينظم هذه السنة افتراضيا، انسجاما مع التدابير الاحترازية في ظل جائحة كورونا وذلك في الفترة الممتدة من 12 الى 19 ربيع الأول 1442ه الموافق من 29 أكتوبر الى 5 نونبر.
في بداية كلمته الافتتاحية قدم القادري التهاني لسائر الأمة الإسلامية بحلول ذكرى المولد النبوي الشريف، مذكرا في هذا الصدد بما دأبت عليه الطريقة القادرية البودشيشية من تنظيم أسبوع كامل فرحا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر تنظيم عدة أنشطة وفعاليات، في طليعتها الملتقى العالمي للتصوف.
وأشار الى أن الملتقى العالمي للتصوف الى جانب مظاهر الابتهاج الأخرى التي تحييها الطريقة القادرية البودشيشة وسائر الطرق الصوفية الأخرى عبر العالم، يشكل مناسبة علمية وأكاديمية يستحضر فيها الهدي النبوي باعتباره حاملا لجميع القيم الكونية والكمالات الإنسانية.
وبين الدكتور منير أن موضوع هذه الدورة يأتي في صميم الحاجة التي يفرضها السياق المعاصر، نتيجة الأزمة الصحية التي يعيشها العالم حاليا، والمتمثلة في جائحة كورونا (كوفيد 19)، التي كشفت عن كثير من الاختلالات التي يعاني منها المجتمع الإنساني على أكثر من مستوى، وفي طليعتها أزمة القيم، التي ظهرت في حالة الاعتلال القيمي والانحدار الأخلاقي البادي في الحياة العامة، بسبب طغيان القيم المادية والنفعية، وهو ما دحض الأطروحة الداعية للعولمة المادية التي راهنت على بناء الإنسان ذي البعد الواحد المحكوم بمنطق أولوية المصلحة الذاتية الضيقة والاستهلاك المادي الجشع وتغييب البعد الروحي والأخلاقي الذي يعطي للإنسان توازنه واستقراره وسعادته.
ونبه إلى الفشل الذريع الذي حققه هذا النموذج الأحادي المستند على التوجه الرأسمالي والفكر الحداثي المشوه الذي لا يفي حتى لقيم ومبادئ الحداثة، وهو ما أفرز اتجاهات أيديلوجية معادية للمثل وكل ما ينسب إلى الدين والتراث القيمي والأخلاقي تحت ذريعة محاربة الرجعية والتخلف، مما خلق منظومة مشوهة لكثير من المعاني الإنسانية.
وحذر من أن هذا النموذج اللامتوازن الذي يمثله بعض المحسوبين على المجتمع الغربي يتسبب في خلق سلسلة من الأزمات، والتي من ضمنها التصريحات المتطرفة والرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، التي تعد دليلا على ما وصل إليه هذا النموذج من أزمة في التعايش، واحترام مقدسات الغير.
وأكد أن التطاول على حرمة الأنبياء يخالف حتى القيم الغربية، مذكرا بشهادات عدد من عظماء وفلاسفة ومفكري الغرب الذين شهدوا بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وشدد القادري على أنه لا يمكن القبول وتحت أي مسمى بالتطاول والمس بالمقدسات، خاصة ما يرتبط بالنبي صلى الله عليه وسلم وسائر إخوانه من النبيئين والمرسلين، الذين بلغوا للإنسانية قيم المحبة والإخاء والتراحم.
ودعا إلى التعامل مع هذه الأزمة بمنطق التدبير الجيد المستند للحكمة التي لطالما اتسم بها المنهج المحمدي، مذكرا بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو فوق وأكبر من أن تنال منه أفواه الحاقدين والحاسدين، مستشهدا بقوله تعالى في سورة الحجر”إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين ” (الآية 95 ).
وحذر في ذات الوقت من الانجرار إلى العنف الذي يحاول البعض إلصاقه بالمسلمين، ومن التوظيف الإيديولوجي، لنصرة الرسول خدمة لبعض الأجندات، مشيرا الى ان نصرة رسولنا وديننا؛ تكون بالعلم، والأخلاق، والقيم، والعمل الجاد حتى نكون سفراء لإسلام الرحمة والمحبة واحترام الآخر.
وتابع القادري أن تلك المواقف لا تمثل سوى اقلية من المجتمع الغربي، مذكرا بأقوال كبار المفكرين والفلاسفة ورجال الثقافة في حق النبي صلى الله عليه وسلم والذين شهدوا بعظمته أمثال غاندي وسيمون أوكلي.
وأوضح أن هذه الأزمات جعلت الحاجة ملحة لإعادة الاعتبار إلى الجانب الروحي في الإنسان باعتباره مكونا جوهريا وهوياتيا فيه، معتبرا أن أزمة اليوم هي أزمة إنسان بالأساس، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم، مبينا أن عددا من الغربيين يتطرفون في مواقفهم ضد المسلمين، ويحكمون على غالبيتهم بما قد يصدر عن أقلية شاذة منهم لم تفهم الدين ومقاصدهَ النبيلة، مشيرا إلى أهمية إعادة التأهيل خاصة على المستوى القيمي والسلوكي، لتمثيل الدين الإسلامي أحسن تمثيل، في احترام لقيم ومبادئ المواطنة العالمية التي تقتضي احترام كل المكونات الحضارية والثقافية الأخرى، وهو ما سيجعل مشكلة الاندماج غير مطروحة مهما اختلف الزمان والمكان والسياق الذي نعيش فيه.
ودعا القادري إلى استلهام النموذج الصوفي باعتباره أحد ركائز الرأسمال اللامادي والبعد الروحي والإحساني في الإسلام لتأهيل الفرد المسلم وجعله حاملا للقيم المحمدية والخروج به من ضيق التحجر والانغلاق إلى أفق التعايش والانفتاح، وبين أن الصوفية لم يكن لهم أبدا مشكل في الاندماج وذلك لما يحملونه من قيم إنسانية راقية مستمدة من الأحوال النبوية والأخلاق المحمدية ، مذكرا في هذا الصدد بأقوال عدد من مشايخ الصوفية كقول ابن عربي في وصاياه: “افعل الخير ولا تبال فيمن تفعله تكون أنت أهلا له”، وكذا مقولة الشيخ الحسن البصري: “الإحسان أن تعم ولا تخص، كالشمس والريح والغيث”، فهذه المعالم القيمية هي أساس الممارسة الصوفية.
وأضاف أن التصوف استطاع، أن يؤسس لحكامة أخلاقية لتدبير الأزمات، وأن شيوخ التربية الصوفية من خلال تأسيهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، تمكنوا من تدبير القيم الروحية والأخلاقية التي يحملها الإسلام، وغرسها وترسيخها في النفوس والقلوب، وتعهدها بالرعاية الدائمة وحسن التوجيه والإرشاد، وهو ما أدى إلى صناعة نماذج أخلاقية صالحة وقدوات مبادرة، استطاعت أن تكون دعامة وأساسا للعديد من المشاريع التنموية والحضارية الناجحة.
وسلط الضوء على ما قدمه صوفية المغرب لتجاوز وتدبير مجموعة من الأزمات داخليا وخارجيا، مضيفا أن المغرب لا يزال إلى اليوم بما يحمله من تجليات عميقة لهذا المكون الروحي الأصيل الذي طبع شخصيته الدينية والتدينية تحت القيادة الراشدة لمولانا أمير المؤمنين مثالا يحتذى في التعاطي مع كثير من الأزمات، مشيرا إلى مواقف جلالة الملك وسعيه الدائم لحل عدد من الأزمات الإقليمية والقارية، على أساس من الأخوة والتعاون والاحترام المتبادل.